محمد عارف
&
عزيزي الدكتور حيدر العبادي المحترم، تحية طيبة أستهلها بنصيحة «لا غالب ولا مغلوب» التي اقترحها الرئيس الأميركي أخيراً على زعماء الشيعة والسنة والأكراد في العراق. وأؤيد انتقاد أوباما «الأغلبية الشيعية على تبديدها فرصة التقارب مع السُنة والأكراد بصورة أوثق، وعدم رجوعهم عن قانون اجتثاث البعث». وأتمنى أن يكون تنازل المالكي عن رئاسة الحكومة، واختيارك لتوليها إشارة إلى تحقيق الفرص الضائعة، وأن تنطفئ أخيراً حرائق جحيم يتأجج في بلدنا منذ رسالتي المفتوحة لك المنشورة هنا بعنوان «رسالة إلى وزير الاتصالات في حكومة الاحتلال في بغداد». وقتها جعلني ردك السريع غير المتوقع، المنشور هنا في 24 نوفمبر 2003، أفكر فيما إذا كنتُ قد اخترتُ طريق السلامة في رفضي المطلق للاحتلال، والذي قلتَ عنه في رسالتك: «يمثل مشكلة حقيقية للعراق كما كانت مشكلة القمع والإرهاب والتدمير التي مارسها النظام السابق ما زلنا نعيش آثارها. والوطنيون العراقيون لا يمكنهم أن يديروا ظهورهم لشعبهم ووطنهم بحجة أنه محتل وإنما يحاولون بمختلف الوسائل خدمة هذا الشعب وإنهاء الاحتلال بالوسائل الممكنة ولِما فيه مصلحة بلادهم. وعاجلاً أو آجلاً فإنّ المحتل سيرحل عن بلادنا ويبقى العراق للعراقيين وبالتالي عليهم تقع مهمة البناء والأعمار» .
&
وها هي 11 عاماً على الاحتلال، وعامان على خروج جيش الاحتلال، وهولُ الاحتلال الذي كان على هوله طفلاً، فصار بركاناً لا يهدأ. وهل خطر ببالك عندما كتبت رسالتَكَ أن يأتي يوم يقدم فيه زميلك في وزارة الاحتلال صورة البلد الشنيعة التالية: «العراق بفضل النفط قد تحوّل إلى بقرة حلوب تنهبه طبقة سياسية جشعة، وبيروقراطية هائلة». كتب ذلك علي علاّوي في مقالة في «نيويورك تايمز» قال فيها إن «وجود العراق نفسه كدولة مهدد الآن بانقسامات اثنية وطائفية جعلتها الحسابات السياسية الخاطئة والتجاوزات الجسيمة غير قابلة للحل تقريباً». وتساءل: «ما العجب في ذوبان القوات العراقية عندما واجهت خطر داعش؟ ولماذا على الجندي العراقي أن يحارب لأجل آمرين يستحوذون على حصة من مرتبات الجنود، ويُحوِّلون تموينات الوحدات للمنفعة الشخصية؟». وذهب علاوي حدّ تحميل «آية الله العظمى علي السيستاني» مسؤولية إرسال «المجندين الذين استجابوا لندائه في مواجهة داعش، من دون تدريب ملائم، وبتجهيزات فقيرة، ومرتبات مختلسة».
&
أعرف أن شهادة علاّوي غير مقبولة، ولعله ممن قلتَ عنهم في رسالتك فَرَضتهم الصيغة «التي قامت على أساس تحالف سياسي بين فصائل سياسية متفاوتة في طروحاتها السياسية ورؤاها وكذلك ممارساتها». وعندما نَقَلَتْ عنك الكاتبة العالمية المناهضة للاحتلال «ناومي كلاين» قولك لحاكم الاحتلال بريمر إن أحداً لا يملك حق خصخصة وبيع ممتلكات الدولة العراقية، آنذاك كان علاوي وزير الدفاع بدون قوات مسلحة، ووزير المالية التي اختفت بمليارات الدولارات، ولم يُعثر على أثر لها حتى اليوم. وكرّس علاّوي مقالته للتعبير، كأي عجوز طيب القلب، عن الحنين للملك فيصل الأول، بدل أن يُقدِّم كشفاً بالحساب، ويراجع كارثة حلّ القوات المسلحة التي تعتبر اليوم أم الكوارث، أو يحقق حول اختفاء ثروات العراق الطائلة!
&
وفارق أيام بين «نوستالجيا» علاّوي الساذجة لماضٍ جميلٍ، وحصافة العلاقات العامة الدولية التي اضطلع بها عراقي عمل سكرتيراً خاصاً لخمسة سفراء أميركيين توالوا على العراق منذ الغزو. «فرصة العراق الأخيرة» عنوان مقالة علي الخضيري في «نيويورك تايمز» والتي استهلها بقول رئيس الجمهورية الجديد فؤاد معصوم لك: «العراق وديعة بين يديك». وذكر الخضيري أنك ورثت بلداً على حافة الانهيار، ولا يتوقف تحطم البلد أو إنقاذه على عملك وحدك، بل على عدد مدوخ من زعماء آخرين، وأحزاب سياسية، ولاعبين غير حكوميين، وقوى جارة وعالمية. ورسم الخضيري في تساؤلاته صورة المستقبل العراقي الممكن الوحيد، كلوحة العشاء الربّاني الأخير لدافنشي؛ شيعة عانوا من حكم صدام حسين يجلسون حول طاولة مجلس الوزراء مع بعثيين سُنة جدد، والذين عليهم تقاسم السلطة مع وزراء شيعة حاليين، كانوا جنرالات في «الحرس الثوري» الإيراني، وبينهم قائد فرق الموت الذي كان يثقب جماجم السنة بالمثقب الكهربائي، وعلى الكرد الذين عانوا الأمرّين من العرب الشيعة والسُنة، القبول بالبقاء جزءاً من دولة عاطلة لا يشاركونها اللغة ولا التقاليد.
&
ويرى الخضيري بصيص أمل في انتمائك إلى عائلة بغدادية، والذي جعل أحد قادة المقاومة المسلحة يقول له إنهم يقفون إلى جانبك لمجرد أنك بغدادي. قد تكون هذه مبالغة إلا أنها، كما يبدو، العامل الذي أطاح بالمالكي، فهو من طويريج بكربلاء، وتحول عام 2012 إلى ارتداء البدلات الإيطالية. ذكر ذلك خياطه البغدادي «موفق علي» الذي صرّح لمراسل الصحيفة الأميركية أن على المالكي التخلي عن الحكم. وتؤكد هذا الرأي صديقة بغدادية لم تُغيِّر بغداد حتى بجنسية زوجها البريطاني، وكَتَبَت تبشرني بأنك بغدادي، والعراق لم يحكمه بغدادي منذ نوري السعيد. وربما أرادت البغدادية أن تستميلني عندما قالت: حيدر بغدادي كرّادي، وهي تعرف أن زوجَي شقيقتَيَّ كرّاديان، وفيهما عرفتُ أن الكرّادي بغدادي متميز «مثل خَسْ ابو الطوبه ببساتين الكراده، مِترَهيْ وهو بنص الطين»!
&
وأنتَ تعرف القول الإنجليزي المأثور «العالِمُ يكتشف الموجود، والمهندس يبتكر ما لا وجود له». فهل تستطيع كمهندس، ليس أن تمنع إيران عن التدخل بشؤون العراق، كما يريد الخضيري، بل أن تجعلها تتدخل أكثر، عن طريق مشاريع حدثتني عنها مرة في مدخل عمارتنا السكنية المشتركة بشارع «سان ستيفنس جاردنز» في لندن. «لماذا لا نقيم مع إيران سوقاً مشتركاً ومشاريع صناعية وسياحية على أطول حدود مشتركة بيننا، كالأوروبيين الذين اهتدوا إلى ذلك بعد أن قتلوا الملايين منهم في أكبر حربين في القرن العشرين»؟ وبالمقابل تُكرّس موهبتك الهندسية في ابتكار مشاريع لتأمين رفاهية وتقدم السنة، ويمكنك الاعتماد في ذلك على شهية السُنة «الدليم» عندما سُئل أحدهم عن رأيه بالكباب، فقال «والله طيّب بس السيخ شويه صعبه يِنعِلسْ ».