جاسم مرزوق بودي

كل ما خرج به الرئيس باراك أوباما بعد الاحتجاجات في فرغسون في ولاية ميزوري هو الدعوة الى الهدوء، طالباً من المحتجين «التفكر والتفاهم».

أعمال العنف هذه المرة دارت فوق أرض أميركية، وبسبب جريمة ارتكبتها سلطة أميركية ضد مدني أعزل، ونتيجة لعدم تطبيق القانون بسرعة ضد الجاني. وتحت شعارات إصلاح المؤسسة الامنية عاشت بعض ضواحي فرغسون حالة حرب حقيقية أطلقت خلالها قنابل الغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي على المتظاهرين الذين اندس من اندس بينهم وعاث في المتاجر والأماكن العامة فساداً.

وتم فرض حظر التجول بعد يوم واحد من النزول إلى الشارع، وأعلنت حالة الطوارئ واستعانت السلطات المحلية بالحرس الوطني... وبعد ذلك كله يدعو الرئيس الناس إلى «التفكر والتفاهم» للعبور من مرحلة الفوضى إلى مرحلة الاستقرار.

ماشي... دعونا نقارن، وفي بعض المقارنة عبر.

القصة ان شرطة فرغسون أوقفت شابا في الثامنة عشرة من عمره اسمه مايكل براون وأطلقت عليه ست رصاصات أردته، وسواء تشاجر الشاب مع رجال الأمن أم أنهم قتلوه وهو رافع يديه الاثنتين على ما ذكرت روايات الشهود إلا ان المتفق عليه أنه كان أعزل ولا مبرر إطلاقا لإطلاق النار عليه. ومع تصاعد الاحتجاجات على الحادثة وتناقلها في وسائل الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي، خرج العشرات في تظاهرة سلمية إلى مركز الشرطة فأطلقت عليهم القنابل المسيلة للدموع والرصاص المطاطي. صار العشرات مئات بسبب عنف السلطة فبقي التعامل الأمني معهم على حاله. دخل مندسون على الخط ومن خارج الولاية أيضاً فضربوا المولوتوف وسرقوا متاجر وأحرقوها ما اضطر السلطات لإعلان حالة الطوارئ وفرض حظر تجول واستقدام قوات اتحادية.

لا داعي للتوسع في التفاصيل الخبرية وكيف اختلطت مطالب كشف حقيقة مقتل براون بالإصلاح المطلوب لضاحية سانت لويس والمناطق المتاخمة، وكيف أن الشرطة والمتظاهرين تبادلوا الاتهامات حول من استخدم الرصاص الحي خلال الاحتجاجات. المهم كم جمعية دولية من جمعيات حقوق الإنسان دانت ما يجري وطالبت السلطات الأميركية بتطهير جهاز الشرطة وتطبيق مبدأ العدالة في معاقبة من قتل براون؟ كم هيئة أميركية طالبت العالم بالتحرك لحماية المدنيين العزل الذين خرجوا في تظاهرة سلمية فأطلقت عليهم الغازات المسيلة للدموع؟ طبعا الامن أولاً والاستقرار أولاً لكن ذلك يجب أن يكون معيار الإدارة الأميركية في كل العالم وليس في بيتها فحسب، وأيضاً من حق الناس أن تعبر بالطرق السلمية وفي إطار المؤسسات وتحت سقف القانون عن كل ما تريد التعبير عنه لكن الخروج عن السلمية إذا ووجه بالحزم في بعض الدول «جريمة ضد الإنسانية» أما في أميركا فهو حق مشروع للسلطة لا يجادلها أحد به.

في مناطق كثيرة في العالم تحصل أخطاء مدانة لكنها أحيانا أقل من خطأ قتل شاب أعزل لأسباب عنصرية، في هذه المناطق يكون الخبر الاول إدانة أميركا لمواجهة الشرطة للمحتجين، وقلقاً دولياً لقطع الإنترنت، وصرخات متوالية من جمعيات حقوق الإنسان العالمية منددة باستخدام الغاز المسيل للدموع، ودعوات من مؤسسات قانونية دولية لمحاسبة المخطئ وإحالته الى القضاء بل وربما جنحت هذه المؤسسات الى التشكيك حتى بالقضاء في هذه الدولة. أو تلك... وقد يتوج ذلك كله بخروج وزير خارجية اميركا (وتابعه اكثر من قفة في اكثر من دولة) للقول إن على سلطات هذا البلد أو ذاك احترام إرادة الشعب في الإصلاح والتغيير.

اليوم، ثلثا المدينة التي شهدت احتجاجات هم من السكان السود، وغالبية المحتجين طالبت المسؤولين بإعادة تأهيل بعض رجال الشرطة البيض متهمينهم بالعنصرية، أكلت القطط ألسنة جمعيات حقوق الانسان الدولية، غابت المؤسسات القانونية الدولية عن السمع وصارت خارج نطاق الخدمة. صمت وزير الخارجية الأميركي عن فرض حال الطوارئ في بلده وهو الذي ما ترك بلداً عربياً إلا وطالبه بعدم اللجوء إلى حال الطوارئ وحظر التجول، وخرج سيد البيت الأبيض لا ليؤيد التغيير والإصلاح في فرغسون بل ليدعو الى «التفكر والتفاهم» في واحدة من شطحاته الفلسفية التي سيتندر عليها الأميركيون طويلا.

هنا في الشرق الأوسط، كان أوباما يخرج إلى الإعلام عند بدء كل تظاهرة وربما قبل التظاهرة أحياناً داعياً الحكام إلى سماع صوت شعوبهم. هناك، في بلده، عندما تحرك عشرات نحو مقر الشرطة عقب جريمة قتل مواطن أعزل تحولت المنطقة إلى ساحة حرب. لم يسمع. صوتهم، لم يتنشق مثلهم الغاز، لم يكحل عينه برؤية حشودهم ولافتاتهم وشعاراتهم. دعاهم الى... «التفكر».

لو كانت صورة عشرات رجال الشرطة في فرغسون شاهرين أسلحتهم في وجه متظاهر أعزل هي نفسها في مكان آخر من العالم، لوجدناها في لوحة خلف الناطق باسم البيت الأبيض خلال مؤتمره الصحافي اليومي مندداً مستعطفا ضمائر العالم... لكن الصورة اليوم في بيته وقد تبدو بالنسبة له «مجرد تباين في وجهات النظر حول مسائل العنصرية».

قبل أوباما كانت الإدارة الأميركية تكيل بمكيالين. مع أوباما انكسر الميزان... حل النفاق محل المبدأ... حل العهر محل الفخر. اسمع صوتهم يا سيد البيت الأبيض. انظر الى الفوضى غير المنظمة التي حصلت عندك بعدما جهدت إدارتك لتعميم الفوضى المنظمة عندنا. تستطيع أن تسمع بشكل أوضح اليوم وأن ترى بشكل افضل ... Yes you can!
&