سمير عطا الله

كان فندق «شبرد» للقاهرة ما كانه فندق «السان جورج» لبيروت، بضخامة أكبر وأناقة أقل. الأول يتجمع فيه ويتسكع أهل أفريقيا وآسيا والعرب، والثاني كان برج مراقبة غربي لجميع الشرق. انتبه جيدا إلى الوجوه في ردهة «شبرد» أو مقهاه، لأن واحدا منهم قد يصبح، ذات يوم، وزيرا أو رئيسا، عندما يستقلّ بلده. ولا تضيّع وقتك في تأمل وجوه رواد «السان جورج»، لأن أصحابها سوف يختفون بعد قليل، ولن تسمع بهم إلا في التقارير السرية التي يحين موعد نشرها.


هؤلاء يسمي بعضهم بعضا «جواسيس». عندما تقرأ مذكراتهم وقصص حياتهم فيما بعد، سوف تكتشف أنهم كانوا يعيشون حياة قلق وخوف وخيانات وطنية وخيانات زوجية. وكان يعرف بعضهم بعضا، ويشك بعضهم في بعض، ويشكّون في أنفسهم.


كان يغلب على متسكعي شبرد وضيوفه طابع القلة والتقشف الاشتراكي. فالاستيراد ممنوع في مصر، ووضع الجنيه مؤسف، ويخفف من حدة الشكوى أن القلة عمومية وما من امتيازات، ولا من مميَّزين. أما «السان جورج» فكان عنوان الرأسمالية ورمزها. الرجال بالسترة البيضاء، والنساء بفساتين السهرة البراقة. فيه تُعقد الصفقات السياسية والمالية والمخابراتية والرومانسية. كان أبرز وأشهر، وربما أخطر الضيوف، البريطاني كيم فيلبي، الذي أقنع بلاده بأنه يعمل لها فيما هو ضابط برتبة عقيد في الــ«كي جي بي»، وخائن بمرتبة سفلى.


كانت بيروت، أواسط الستينات، نموذج الحياة الغربية في كل شيء، فيما كانت القاهرة تنزاح بتسارع نحو عالم الاتحاد السوفياتي والنهج الاشتراكي، وتمضي في تجريد نفسها من معالم الماضي وبهرجة الأشياء. وفيما كان رواد «السان جورج» يتبارون في عرض آخر رابطات العنق الباريسية، كان رواد «شبرد» لا يغيرون أطقم «السافاري» القصيرة الكُمّين، ثوب ماو وجومو كينياتا وجوليوس نيريري وجوشوا نكومو، الذي تركه رفيقه روبرت موغابي يموت جوعا بمجرد الوصول إلى السلطة. كانت القاهرة صورة القارة وشبرد صورة القاهرة. لكن مقهى الهيلتون بدأ يطغى عندما انتقل سعيد فريحة إلى هناك ومعه فرس حاتم الطائي، التي يذبحها كل يوم للضيوف الذين يتحلقون حوله إلى مائدة مضادة للجو الاشتراكي السائد.


وكان صاحب «الجعبة» يسرف أيضا بأناقته الإنجليزية وأفخر رابطات العنق. وقد سألته مرة، بعفوية قريبة من البلاهة، إن كان يؤمن حقا بالاشتراكية، فأجاب ضاحكا: «إلى أن تتعرض لرابطات جاك فأت».
إلى اللقاء..