عبد العزيز المقالح

قليلة هي الفترات التي تتطابق فيها مواقف الشعوب مع الأنظمة بما فيها تلك الأنظمة الحديثة التي تدعي الديمقراطية وتتباهى بأنها وصلت إلى السلطة عن طريق الانتخابات وبموافقة أغلبية شعبية تمكنها من الحكم وتطلق يدها في اتخاذ ما تراه صائباً ومناسباً من وجهة نظرها حتى لو لم يكن صائباً ولا مناسباً من وجهة نظر الشعب . وفي الولايات المتحدة -على سبيل المثال- حيث النموذج الديمقراطي (الأشمل والأكمل) على حد ما يقوله المعجبون بالنظام الأمريكي وآلية الحكم في تلك البلاد الغنية الواسعة . فقد أثبت الواقع ومن خلال المتابعة الدائمة أن الاختلاف بين الشعب والبيت الأبيض لم يتوقف في يوم ما، وأن للبيت الأبيض رؤيته القائمة على مصالح النظام ومغامراته غير المحدودة، وللشعب الأمريكي رؤيته التي ترى في مواقف البيت الأبيض ومغامراته المكلفة خروجاً على مبادئ الآباء المؤسسين للدولة، وخروجاً على رغبة المواطنين الذين باتوا يكرهون تجنيد أبنائهم والزج بهم في حروب كانت لها بداية ولا أحد يستطيع الآن أن يتبين لها نهاية .


وهذه الحروب التي يخوضها البيت الأبيض، من وجهة نظر الشعب الأمريكي، حروب خاسرة ولا يجني من ورائها الشعب مكسباً مادياً أو معنوياً، فقد تدهورت بسببها سمعة الولايات المتحدة في العالم ووصلت إلى الحضيض، كما تدهور الاقتصاد وباتت الدولة العظمى أكبر مدين في العالم .


وكان العقلاء في هذه الدولة ومنهم مفكرون وسياسيون وقادة رأي وأعضاء في الكونغرس بشقيه يرون أن التوسع في المغامرات والبحث عن إيجاد مناطق ساخنة في الشرق والغرب من شأنه أن يضعف قوة هذه الدولة ويحولها في المدى القريب إلى دولة من الدرجة الثانية أو الثالثة . وأن القوة، قوة السلاح والمخزون النووي المثير لأقصى المخاوف، لا تصنع دولة عظمى ولن تحقق الهدف الإمبراطوري المزعوم . وهؤلاء العقلاء، وهم من الكثرة بمكان، يحلمون بأن تعود الولايات المتحدة إلى ذاتها وتبني نفسها بناءً جديداً ومختلفاً، ولكي تحافظ على ما تبقى من كيانها المنهار .


وهذا النموذج الأمريكي الخاص بالعلاقة بين الشعب والنظام يعكس نفسه على الشعوب الأوروبية وفي مقدمتها بريطانيا وفرنسا النظامان المساندان للبيت الأبيض والسائران في فلكه التوسعي وتزعّم العالم، وحيث لا فرق في المواقف لا من افتعال الحروب ولا تحدي مواقف الشعبين البريطاني والفرنسي في كثير من القضايا الدولية . تبرز الأحداث المتلاحقة أن قادة البلدين الممسكين بنظام الحكم لا يختلفون كثيراً عن سابقيهم من الحكام الذين تخرجوا من مدرسة الاستعمار القديم وأنه هؤلاء الحكام الجدد باتوا ينظرون إلى العالم بمنظار القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وكأن البشرية خارج بلادهما توقفت عند هذين القرنين ولم تتطور، ولم تشهد المزيد من الثورات والمواجهات الدامية، وأن بيان حقوق الإنسان وما عبّر عنه من احترام حق المصير للشعوب التي تعرضت للاحتلال الأجنبي، كل ذلك لم يدخل في أذهان قادة البلدين الجارين، بريطانيا وفرنسا، وهم يسيرون في ذيل الولايات المتحدة وربما يعتقدون أنها هي التي تسير في ذيلهم .


أما عندما ننتقل من مجال الدول الكبرى والمتقدمة، وما يتجلى من سوء العلاقة بين شعوبها وأنظمتها ونتجه صوب العالم الثالث فإن الأمر يبدو محزناً أكثر، ومن الطبيعي أن يكون كذلك، فهذا العالم الذي كان ضحية الدول الاستعمارية التي سُميت بعد ذلك بالدول الكبرى، لا يزال ضحية لهذه الدول وألاعيبها السياسية والاقتصادية، كأنه صار من الصعب على الأنظمة في هذا العالم الثالث أن تكتشف أخطاءها أو بالأحرى خطاياها وتسعى إلى تصحيح مسار علاقاتها مع شعوبها وإيجاد حالة من التفاهم والتناغم بين الطرفين لصالح التطور ومحاربة التخلف، ولن يتم شيء من ذلك إلاّ في مناخ من الحرية والإصغاء لصوت الشعب والعمل على بناء أنظمة وطنية هدفها إنقاذ مواطنيها من حالات الفقر والبطالة والجهل، وألا تتخذ من النظام في الدول الاستعمارية نموذجها بعد أن أثبت فساده في موطنه الأصلي . وإذا صلحت النوايا وأخلصت القلوب فإن الطريق إلى الشعب كالطريق إلى النظام سيكونان في غاية الوضوح والانسجام .