&حال «تأهب» تعيشها بلديات لبنان... قرارات وإجراءات على الأرض، منْع للتجول وتحديد عدد شاغري الوحدات السكنية. الخلفية ليست «عنصرية» كما يقول رؤساؤها، انما محاولة لضبط الأمن بعد التخوّف من تفلّته ولا سيما في أعقاب أحداث «عرسال» التي وقعت بين الجيش اللبناني ومسلّحين من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش» والتي تركت «ندوبها» في نفوس المواطنين والمسؤولين. أما «فاتورة» التضييق فيدفع ثمنها النازحون وعلى رأسهم السوريون.

الأيام الماضية كشفت أن «فيروس» التضييق على «الأجانب» معدٍ للغاية، وها هو ينتقل في شكل سريع من منطقة إلى أخرى، شمالاً وجنوباً، شرقاً وغرباً...«الأمصال» المضادة بدأ تجرُّعها بانتظار نتيجة مفعولها... والـ«فوبيا» مرشّحة للتمدُّد كـ «بقعة الزيت» بعد قرْع طبول «الخطر الداعشي» و«تشخيصه» على انه يهدّد وجود لبنان وكيانه.

وبعدما ظهّرت أحداث عرسال وجود مسلّحين خرجوا من داخل مخيمات النازحين في البلدة وعلى أطرافها، تصاعدت حال النفور حيال اللاجئين السوريين الذين باتوا يشكّلون أكثر من ثلث سكان لبنان موزّعين على مجمل خريطة «بلاد الأرز» التي وجدت نفسها منذ اندلاع الأزمة في سورية امام «كرة ثلج» متدحرجة اسمها ملف النازحين الذي يُخشى ان يتحول إلى... «كرة نار».

وبين خوف اللبنانيين على أمنهم الذي اهتزّ بقوة مع أحداث عرسال واعتداء مجموعات سوريّة على الجيش داخل الاراضي اللبنانية في تطوّر كادت ارتداداته ان تضع البلاد امام مفترق خطير، وبين الواقع المأسوي لأكثر من مليون ومئتي الف نازح مسجلين على لوائح مفوضية الامم المتحدة لشؤون اللاجئين وتقاعس المجتمع الدولي عن الوفاء بالتزاماته تجاههم، يرتسم مشهد قاتم ينذر بالمزيد من تعميم ثقافة الخوف، المشروع أحياناً و«المنفوخ» أحياناً أخرى، وباتساع رقعة الإجراءات الاحترازية حيال النازحين، وإن تم «تمويهها» بعنوان «الأجانب»، والتي تلامس مراتٍ حد العنصرية.

في عكار، إحدى مدن الشمال التي تضم خمسة مخيمات كبيرة تأوي 106 آلاف نازح سوري، والتي دفعت دماء باستشهاد ستة من أبنائها أثناء المواجهات التي استمرت خمسة أيام بين الجيش اللبناني والمسلحين في عرسال، عدا العدد الكبير من الجرحى والمفقودين، بدأت تنظر الى السوريين وكأنهم خطر داهم، الأمر الذي دفعها إلى اتخاذ خطوات تعتبرها احترازية وتبدأ بمنع تجولهم ليلاً ومنع استخدام الدراجات النارية، حتى وصل الأمر مع بعض بلديات عكار المئة واثنين الى الطلب من النازحين مغادرة بلداتهم.

أمين سر بلدية عكار العتيقة خالد ملحم أكد لـ «الراي» أنه «في بادئ الأمر لم يكن لدينا العديد من النازحين حيث كانوا يفضّلون المناطق الساحلية على ضيعتنا الجبلية الجردية، لكن مع استمرار الأزمة السورية وتدفق المزيد من السوريين، قصد منطقتنا ما يقارب ألف وخمسمئة سوري موزعين على 300 أو 400 عائلة دخلوا على دفعات. لم نعر الموضوع أهمية لكن مع تفاقم المشكلات ولا سيما قبل شهرين، حيث تم تسجيل أكثر من حادث فردي، اضطررنا إلى وضع اعلان يمنع تجول النازحين بعد الثامنة مساء وإجبار الجميع على تسجيل اسمه ومكان إقامته لدى البلدية».

وعما إذا كانت أحداث عرسال أثرت على قرارات البلدية، أجاب «صحيح لم يسقط لنا شهداء، لكن سقط للقرى المجاورة كالمشتل (تبعد عنا حوالي 15 كيلومتراً) اثنين من أبنائها دفعا دماءهما للدفاع عن أرض وطنهم، كما سقط شهيد من بلدة الفنيدق على حدود ضيعتنا، لكن ما تمت ملاحظته بعد أحداث عرسال قيام النازحين بحركات غير طبيعية، كتجمعات على الدراجات النارية الأمر الذي دفعنا إلى تسريع الاجراءات لضبط الأمن».

وهل اتخذت جميع بلديات عكار مثل هذه الاجراءات؟ قال «سأتكلم بصراحة، الضيع المسيحية كالقبيات وعينتات ومنيارة لا تسمح في الأساس للسوريين بالدخول إليها بشكل كثيف على عكس المناطق القريبة من الحدود السورية والتي تعاني من كثافة النازحين، وهذه القرى الحدودية هي التي اتخذت هكذا إجراءات، مع التأكيد أن الأمر يتعلق بضبط الأمن وليس له علاقة لا من قريب ولا من بعيد بالعنصرية».

لا شك أنه بعد مرور سنوات من عمر الأزمة وازدياد أعداد النازحين السوريين إلى لبنان، انعكس وجود هؤلاء سلباً على كل مرافق الحياة، لجهة الخدمات والأعمال وإيجار المنازل وارتفاع نسبة الجريمة بحسب رئيس بلدية الشويفات (احدى قرى قضاء عاليه في محافظة جبل لبنان) ملحم السوقي الذي أشار في حديث لـ «الراي» الى جملة قوانين، فرضتها البلدية أبرزها «منع ايواء أي لاجئ جديد، والفرض على المالكين الابلاغ عن اللاجئين السوريين القاطنين لديهم، ومنع اشغال الوحدة السكنية لأكثر من عائلة».

كما منعت البلدية ايواء العمال السوريين في الغرف والمستودعات والملاجئ والأبنية قيد الإنشاء من دون كفالة متعهد أو مقاول أو مهندس، ومنعت أيضا التجول للدرجات النارية والأجانب بعد الساعة التاسعة ليلاً وحتى السادسة صباحاً تحت طائلة الحجز».

السوقي أكد أن «الاجراءات المتخذة ليست ضد النازحين السوريين انما لمصلحة السوريين واللبنانيين معاً. نحن اتخذنا هكذا خطوات من أجل الحفاظ على الأمن فالأحداث التي وقعت في الفترة الأخيرة جعلت الناس يشعرون بالخوف، ما اضطررنا إلى محاولة التخفيف من ذلك». واضاف «اللاجئ السوري له الحق أن يعمل وأن يقوم بما يريد لكن في حدود معينة. القرار لا يطول السوري فقط بل كل أجنبي سواء السوداني أو العراقي وهذه الاجراءات ستساعد على ضبط الأمن».

ويتحدث لبنانيون بلسان واحد تقريباً عن سرقات بالجملة، تحرُّش بالفتيات والنسوة، عمليات احتيال وانتهاكات، هذا عدا عن تخفي البعض ومحاولة البعض الآخر القيام بأعمال غير شرعية وقانونية تحت جنح الظلام.

ويقول رئيس بلدية جزين (محافظة الجنوب) خليل حرفوش لـ «الراي»: «اتخذنا قراراً بمنع استقبال لاجئين جدد لأن العدد بات مرتفعاً جداً، ولا سيما بعد أن فاق عدد النازحين الألف، في حين عدد السكان المحليين يراوح بين ثلاثة إلى اربعة آلاف، بعدما كان سكان المنطقة يقومون باستقبال أعداد كبيرة من السوريين من دون الأخذ في الاعتبار الشروط الصحية حتى وصلنا إلى حد لم يعد بامكاننا أن نتحمل أكثر، هذا مع الأخذ في الاعتبار أنه لا يوجد لدينا بنى تحتية وثمة مشاكل تتعلق بالنفايات والصرف الصحي والكهرباء والماء، ما دفعنا الى اتخاذ قرار بعدم ايواء أكثر من خمسة أشخاص في غرفة واحدة».

بلدية جزين لم تتأخذ قراراً يمنع تجول الأجانب لكنها تمنع أي تجمعات تفوق عشرة أشخاص «لشباب ليسوا معروفين جيداً من قبل أبناء المنطقة». وشدد حرفوش على «ضرورة أن يدرك الاعلام أن الموضوع ليس من باب العنصرية أو الطائفية، فكل ما نريده الحفاظ على أبناء المنطقة ومنع أي احتكاكات. وبالتأكيد فإن الاجراءات المسبقة خير من الوقوع بين فكيْ الجريمة».

وعما إذا كانت تلك الاجراءات تعتبر قانونية؟ أجاب: «بالتأكيد، فرئيس البلدية له حق القيام بأي عمل واتخاذ أي قرار له علاقة بالصحة والسلامة العامة، فاليوم أنا مسؤول عن أمن وسلامة أولاد جزين وهذا الأمر يوضع فوق كل اعتبار».

الدكوانة (ساحل المتن الشمالي) استشعرت بالخطر الداهم منذ ما يزيد على عامين ونصف العام ما دفعها إلى طرح المشكلة أمام البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، مستشرفة المشكلة من زاوية اقتصادية قبل أن تكون أمنية.

تؤوي منطقة الدكوانة ما يقارب العشرة الآف لاجئ تتمركز أكثريتهم في الأطراف بحسب رئيس بلديتها أنطوان شختورة الذي أضاف لـ «الراي»: «قمنا باتخاذ تدابير أولية من خلال تنظيم النازحين وإلزامهم تعبئة استمارات تتضمن معلومات عنهم». وأشار الى أنه «يعيش أكثر من ألف سوري في 3 مبانٍ تم دهمها الأسبوع الماضي وتوقيف 13 مشتبها بهم، وكل ذلك من أجل مكافحة الجريمة بكافة الوسائل، فنحن كضابطة عدلية يعتبر ذلك محور عملنا سواء تجاه السوريين أم العراقيين أم كافة الأجانب».

وعما إذا كان القرار يطول الأميركيين والأوروبيين أجاب «بالتأكيد يطول الجميع إذا أخلّوا بالأمن بمن فيهم اللبنانيون، فمع ارتفاع نسبة الفقر والعوز ارتفعت معدلات الجريمة ونحن نعمل على الحد منها».

وتحدث عن تعميم رئاسة حكومة نجيب ميقاتي لقرار تم نشره في الجريدة الرسمية يمنع الأجانب من ممارسة أعمال معينة وهذا القرار نقوم بتطبيقه في منطقتنا.

وختم «لقد عانينا من أهوال الحرب اللبنانية، ولذلك نحن أكثر مَن يشعر سواء مع السوريين أم العراقيين. فنحن جربنا التهجير ونريد مساعدتهم قدر الامكان انسانياً لكن نريد في الوقت ذاته الحفاظ على وطننا».

مدير مكتب منظمة «هيومن رايتس ووتش» في بيروت نديم حوري اعتبر في حديث مع «الراي» أن «حق البلديات في التنظيم لا يعطيها الحق بتجاوز القوانين والدستور اللبناني والمعاهدات الخاضع لها لبنان، فالبلدية لها الحق بتنظيم الصرف الصحي والنفايات على سبيل المثال وإلزام النازحين بالتسجيل لديها، لكن تبدأ التجاوزات والانتهاكات عند التعاطي باعتباطية وتمييز مع النازحين، كإجبار بعض البلديات السوريين على اخلاء الأماكن المستأجرة خلال مدة معينة، أو الطلب منهم تسليمها بطاقاتهم الشخصية. أما فيما يتعلق بموضوع حظر التجول فيجب معرفة على مَن يُطبق هذا القرار وبأي طريقة يتم تطبيقه ولأي اسباب».

وأكد حوري «ان النقطة الاساسية تتمثل في اننا نلاحظ انتهاكات لجهة التمييز بين الأجانب، إضافة إلى أن تطبيق القرارات لا يكون دائماً من شرطة البلدية بل في بعض الأحيان يتسلم المهمة شباب المنطقة ويشكل بعضهم لجاناً أهلية، والأمر غير المقبول عندما يتم توقيف واستجواب أشخاص، فالقوانين اللبنانية واضحة بمنح جهات معينة مسؤولية التوقيف والتحقيق والسلامة العامة لا أن تأخذ كل بلدية على عاتقها وعلى طريقتها هذا الموضوع لاسيما أنه لا توجد خطة وطنية وإشراف ومراقبة فعلية من وزارة الداخلية على اجراءات البلديات».

ولفت حوري الى «ان العديد من النقاط تثير المخاوف في ظل تجاوز بعض البلديات لصلاحياتها فإذا كان التنظيم أمراً ضرورياً، فإن الأهم ألا يتحوّل تجاوزاً للقوانين ومساً بأبسط حقوق الانسان. ونحن كمنظمة نقوم بتوثيق الاجراءات المتخذة من البلديات مع اعطاء الأولوية لحالات الطرد الجماعي للنازحين من بعض المناطق أو الضغط لطردهم من دون أي مسوغ قانوني واضح».

&