خليل علي حيدر

كان طرد المسيحيين العراقيين من الموصل وشمال العراق في صيف 2014 الحالي، وبهذه الطريقة المهينة خاصة، كارثة ذات دلالة بالغة السوء، على الصعيد الإنساني والحضاري، بالنسبة للشعب العراقي وما هو معروف عن تنوع نسيجه الاجتماعي، وكذلك للعالم العربي كله، الذي عرف التنوع الديني عبر تاريخه، قبل الإسلام وبعده. إلى جانب الآلام التي لا توصف والجرائم الفظيعة وأعمال السرقة والنهب، التي رافقت إخراج المسيحيين وإجبارهم على الرحيل عن مدينتهم التي عاشوا فيها على امتداد التاريخ والقرون.

كان هذا الإجلاء القسري الذي تولته جماعة «داعش»، الدولة أو الخلافة الإسلامية، كما سمت هذه الكتائب الإرهابية نفسها، الحصيلة المؤسفة والحصاد المر، لجهود «الإسلام السياسي» وجماعاته وحملاته، في التهجم المتواصل في مختلف أجهزة التواصل منذ عقود، على المسيحيين «النصارى» و«الكفار» و«المشركين» في عدد لا حصر له من كتب الجماعات الإسلامية وخطبها وأشرطتها وندواتها ومجلاتها ومواقعها الإلكترونية، فلم يعد الأمر يحتاج إلى أكثر من «مجموعة إسلامية» تتقدم الصفوف، وتنفذ في هؤلاء حكم الشرع، وتخيرهم بين قبول الإسلام أو دفع الجزية.. أو السيف!

وهذه المهمة «الشرعية»، تبنتها السلفية الجهادية وبناتها التنظيمات الإرهابية، كالـ«قاعدة» و«داعش»، وسَعَت في تنفيذها في شمال أفريقيا ومصر وبلاد الشام وأخيراً لا آخراً.. العراق. وفي العديد من هذه الدول المنكوبة، قامت مجموعات تكفيرية «مجاهدة»، بقتل المسيحيين، واختطاف واغتيال الرهبان والراهبات، وتفجير الكنائس وحرقها، واختطاف «النصارى»، وبخاصة البارزين والأثرياء منهم، مقابل مبالغ طائلة لإطلاق سراحهم، سواء أطلقت سراح هذا المختطف، أو قبضت المال وأطلقت عليه رصاصة الموت.. من خلف الرأس.

وفي دول عربية عديدة عاش المسيحيون ولا يزالون ظروفاً قاسية بسبب التشهير والتمييز وحرب الكراهية في المدرسة والحي ومكان العمل، وبروز ظاهرة «المسيحوفوبيا»، والتي شملت بعض أعراضها الدول الخليجية كذلك. ففي دولة كالكويت مثلاً، اعتاد الناس فيها على رؤية ومعايشة المسيحيين اللبنانيين والآسيويين والأوروبيين، فتواصلت مطالب الإسلاميين من «إخوان» ومن «سلف»، بإغلاق الكنائس، ومنع مظاهر الاحتفال بأعياد «الكريسماس»، وإغلاق أي مكتبة تعرض الكتاب المقدس والكتب المسيحية على أرففها، وعدم تلبية أي مطلب من مطالبها بتوفير أماكن العبادة.. أو توسعتها!

هذا في الوقت الذي كانت فيه هذه الجماعات الإسلامية تعلن بكل فخر واعتزاز نشاطاتها الدعوية في أوروبا وأميركا، وكندا وأستراليا، وكوريا واليابان، وفنزويلا والبرازيل! وتتحدث بإسهاب عن نشر الإسلام هناك وبناء المساجد وتأسيس الجمعيات واللجان، والمطالبة بتخصيص أماكن واسعة في مختلف مدن أوروبا لصلاة الجمعة والعيد، والتسامح بنحر الأضاحي في الأحياء السكنية، والأذان والتراويح!

وكما في موقف الجماعات الإسلامية من الديموقراطية وحق الانتخاب، حيث لا تعترف إلا بما فيه فوزها، فكذلك تعطي نفسها أوسع الحقوق في نشر الدعوة في بلاد أوروبا والغرب، وتحاصر ما استطاعت حقوق غير المسلمين في العالم العربي.

مأساة المسيحيين العراقيين في بغداد وكردستان ليست وليدة اليوم بالطبع. ففي أواخر عام 2010 مثلاً تقدم الرئيس العراقي السابق جلال طالباني، بمقترحات لتشكيل قوات خاصة من أبناء الطائفة المسيحية لحماية مساكنهم ودور عبادتهم أو القدوم إلى إقليم كردستان، على خلفية التهديدات الإرهابية التي تستهدفهم.

وقد رحب المسيحيون بتلك المقترحات وشكروا الرئيس طالباني عليها، فقد بدت كما قالوا، «بديلاً معقولاً عن التفكير في الهجرة إلى الخارج، وتفريغ العراق من مكونه المسيحي». وكانت ثمة مشكلة كبيرة في تنفيذ المقترح، تتمثل في استيعاب هذا العدد الكبير من المسيحيين الراغبين في ترك بغداد والمناطق الأخرى جراء التهديدات على حياتهم، وصعوبة استيعاب طلبة المدارس والجامعات، وكذلك استيعاب الأفراد الذين لا يجيدون اللغة الكردية بسبب نشوئهم في بغداد، وما يخلق ذلك من مشكلة عدم قدرة دوائر حكومة الإقليم على استيعاب هؤلاء تعويضاً عن وظائفهم في بغداد. أما عن هجرة المسيحيين إلى خارج العراق، فقد صرح القيادي المسيحي «روميو هكاري»، أمين عام «حزب بين نهرين» الديمقراطي» من مكان إقامته ببلدة «عينكاوة» ذات الأغلبية المسيحية والتابعة لمدينة أربيل، «كمبدأ ثابت، نحن نعترض ونرفض تماماً خروج أي من مواطنينا المسيحيين إلى خارج العراق مهما كانت المغريات، لأننا جزء من هذا العراق، ومنذ آلاف السنين». (الشرق الأوسط، 19 - 11 - 2010).

وكانت الصحيفة نفسها قد عرضت قبل أسبوع من هذا تفاصل حياة عائلة مسيحية بالعراق، تقيم في منطقة «سبع أبكار» في بغداد، ذات الغالبية المسيحية، وتتكون من أب وأم وابنهما الذي لا يزيد عمره على 14 عاماً. وقد قابلتْ الصحفية هدى جاسم العائلة المسيحية البسيطة في منزلها المتواضع، حيث بدا الولد «ستيفن» الذي كان يجلس بجوار والده سامي البرواري، خائفاً، بل مرتعب من الذهاب إلى المدرسة، وقال إنه يخاف أن يُقتل أو أن يخطف في أحد الأيام، لأن «اسمي يدل دلالة واضحة على أنني مسيحي». وكل ما يريده اليوم مغادرة العراق، «لأنهم سيقتلونني يوماً».

رب العائلة «سامي»، رجل عاطل عن العمل. زوجته «ريتا» التي كانت تعمل في وزارة التجارة قبل سقوط نظام صدام، تركت وظيفتها في عام 2003 بسبب سوء الأوضاع الأمنية «وتعيش عائلة البرواري مع هاجس القتل، مثل غالبية سكان مناطق سبع أبكار والغدير وكراج الأمانة والصناعة والدورة ومناطق مسيحية أخرى، باتت هدفاً للقتل».

لا يشعر المسيحيون في العراق بالسلام الذي ينادون به في كل قداس، تقول الزوجة. ويقول سامي زوجها إن رجال الدين يحثون المسيحيين على البقاء وعدم الرضوخ للخوف، لكن المواطن قد يتعرض للقتل والتهديد وهو داخل بيته، ويضيف: «كنت آمل في حياة مليئة بالبهجة والأمان بعد سقوط النظام السابق، ولكنني فجعت بأن الحياة مليئة بالرعب والقتل، ونحن مهددون أكثر من غيرنا لأن ديننا دين الأقلية».

ويعيش الابن في رعب دائم من أن يفجر الإرهابيون مدرسته التي تضم عدداً من المسيحيين. وبخاصة بعد الاعتداء على كنيسة «سيدة النجاة»، الذي تبناه تنظيم «دولة العراق الإسلامية» التابع لتنظيم «القاعدة» - وهو الذي تطور اليوم إلى «داعش» أحد أشرس المنظمات الإرهابية. وقد طالب الإرهابيون الذين اختطفوا رهائن من المسيحيين، بالإفراج عن معتقلين من تنظيم «القاعدة» في العراق وبعض البلدان العربية.

وجاء في التقرير نفسه عام 2010، أن عدد المسيحيين في العراق قد تناقص بنسبة 60% عمّا كان عليه قبل عام 2003، وأن عددهم لا يتجاوز الآن نصف مليون مسيحي تقريباً، وذكر أن 52 كنيسة تعرضت للتفجير والاعتداء في بغداد والموصل وكركوك، وكان آخرها كاتدرائية «سيدة النجاة» في «الكرادة» ببغداد. وقد تعرض الطلبة المسيحيون في مايو 2010 إلى أكبر هجوم في الموصل، حيث تعرضت خمس حافلات لهجوم إرهابي قتل فيه ثلاثة أشخاص وأصيب 188 طالباً وطالبة من جامعة الموصل.

رجال الدين الإسلامي والدعاة في تلك السنة آثروا الصمت في الأغلب وعدم الاحتجاج على جرائم الإرهاب. وهذا ما احتج عليه يومذاك كاتب إسلامي معروف في «الشرق الأوسط»، حمد الماجد، الذي كتب مقالاً بعنوان «أوقفوا هجرة المسيحيين من بلاد المسلمين»، قال فيه:(من أوجب الواجبات أن يرفع العلماء والدعاة والمفكرون من المهتمين بالشأن الإسلامي عقيرتهم بالتنديد بمثل هذه الجرائم العشوائية التي ترتكبها «القاعدة» ضد الكنائس المسيحية والحسينيات الشيعية، كالتنديد الذي نعلنه ضد المعتدين على المساجد ومراكز أهل السُنة من قبل بعض متطرفي الشيعة أو اليمين المسيحي المتشدد، كما يجب أن تكون لغة التنديد قوية وواضحة وصريحة لا لبس فيها، فهؤلاء البلطجيون من موتوري «القاعدة» أمسوا بارتكاب مثل هذه الجرائم سبباً في تشويه صورة الإسلام والمسلمين في كل مكان، يجب خنقهم فكرياً والبراءة منهم ومن أفعالهم الشنيعة، إن السكوت أو حتى اللغة الرمادية الفضفاضة والتي واجهت جرائم «القاعدة» في بعض البلاد الإسلامية في التسعينيات هي التي وفرت، ضمن عوامل أخرى، إطالة لأمد التأثر بهذا الفكر الموبوء، وليس ثمة من يقدر على لجمهم فكرياً ومحاصرتهم منهجياً مثل العلماء والدعاة والمهتمين بشؤون الدعوة في القطاعين الدعويين الرسمي والخاص).

والسؤال الذي يطرح نفسه كلما استعرضت جماعات الإرهاب والتشدد الديني عضلاتها ضد الأقليات الدينية، من الذي أوهم مسلمي القرن الحادي والعشرين، على أن نطاق واسع، أن نهضة المسلمين لن تتم إلا باقتلاع واضطهاد الأقليات؟
&