عرفان نظام الدين

كل حرب تنتهي بمفاوضات سلام، وكل أزمة لها تسوية، وكل مشكلة لها حل، فلماذا ندخل في صراعات ومشاكل وحروب تدمر البشر والحجر وتعمق الشروخ بين الشعوب والأمم وتثبت روح الكراهية وتنشر الأحقاد وتدفع الشعوب للتقاتل والانتقام المدمر؟

&

والله عز وجل دعانا إلى السلام والمحبة، في محكم تنزيله: «وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم»، فلماذا نخالف إرادة الله ونختلف على أمور ثانوية وسخيفة ونقتل النفس البريئة ونمضي قدماً في نظريات مدمرة، مثل «صراع الحضارات»... وغيرها.

&

واليوم، ونحن نشهد في العالم وفي ديارنا غير العامرة بالذات حروباً وأزمات ومذابح، وتطغى على حياتنا أصوات منكرة تدعو إلى المضي في القتل والتدمير واستباحة النفس البريئة التي حرم الله قتلها أو الاعتداء عليها، نعيش حالة ضياع ونكاد لا نبصر نوراً في نهاية النفق المظلم، وكأننا نسير نحو حتفنا وهلاكنا من دون أن نسمع صوت الحكمة ونداءات المحبة والتعايش والتعارف والتآلف وحل المشاكل بالحسنى وتسوية الأزمات في أسرع ما يمكن وإطفاء الحرائق... حتى لا تلتهم البيت كله.

&

في المقابل، نشهد تصعيداً مريباً للحرب على الإسلام وتشويه صورته السمحة بسبب تصرفات بعض الذين اتخذوا الدين ستاراً لأغراضهم ومطامعهم السياسية، ونشروا أسلوب التكفير وثقافة كراهية الآخر والدعوة الى العنف والإرهاب.

&

هذه الممارسات استغلها أعداء الإسلام الذين روّجوا لنظريات الصدام والمواجهة، ونشروا ثقافة «الإسلاموفوبيا»، أي الخوف من الإسلام بزعم أن الحضارة العربية لم يعد لها عدو بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وسقوط الشوعية والاشتراكية سوى الإسلام مع الترويج لأمور سيئة ودعايات مغرضة وتقديم صور مسيئة للدين وللمسلمين.

&

وعلى رغم تفاهة منطلقات الأعداء وعدم قدرتهم على التصدي لأفكار الإسلام السمحة ودعوته الخيرة الى السلام والتعايش، فإن بعض «المتأسلمين» قدموا خدمات كبيرة لهم عبر أعمال العنف والإرهاب والبيانات التحريضية والصور المسيئة التي يقدمونها عن الدين الحنيف من تكفير ودعوات الى القتل وقطع الرؤوس. وجاء زلزال 11 أيلول (سبتمبر) 2001 في تفجيرات نيويورك وواشنطن وما بعدها، فصب الزيت على النار وأضاف سلاحاً جديداً في أيدي الجهات التي تحمل الحقد والكراهية والعداء للإسلام والمسلمين.

&

في المقابل، فإننا نعيش هذه الأيام طلائع فتن طائفية ومذهبية في البلاد العربية، ولا سيما بين السنّة والشيعة، وكأنه لم يكفنا ما وصلنا إليه من انهيارات وانحدارنا نحو الدرك الأسفل نتيجة الهدر والفساد والديكتاتورية البغيضة ومحاولات التفرد في الحكم وفي القرار لأغراض خبيثة أو من منطلقات مغرضة تقدم خدمة للأعداء الكثر، وخصوصاً عند طرح نظريات مشبوهة، مثل التقسيم والمواجهة وتحالف الأقليات.

&

من هنا، لا بد من دق نواقيس الخطر والتحذير من مثل هذه الفتن البغيضة لأنها تصب كلها في مصلحة العدو الإسرائيلي الذي كان يقف دائماً وراء إثارة الفتن وترويج نظريات «صراع الحضارات» و «الإسلاموفوبيا» ونشر الصور المسيئة عن الإسلام والتعرض لمقام الرسول الكريم محمد (صلى الله عليه وسلم) وتحريض الرأي العام العربي والعالمي في شكل عام ضد كل ما يمت إلى المسلمين والعرب بصلة.

&

ومع دق نواقيس الخطر بعد كل ما جرى في سورية والعراق ولبنان من تأجيج للفتنة والتعرض للمسيحيين والأقليات، لا بد من العمل الجدي المتواصل لخوض هذه المواجهة السلمية ودحض مزاعم الأعداء والدعوة الى الحوار البناء ووأد الفتن وهي في مهدها، ونشر صورة الإسلام الحقيقية كدين سلام ومحبة وتعايش، ودين الحكمة والموعظة الحسنة ودين الحوار والتفاهم مع الآخر، وإحلال ثقافة الحوار مكان ثقافة الكراهية والفرقة والتنابذ التي تدمر الجميع وتقضي على كل الأطراف مهما كان شأنهم وتودي بهم الى الهلاك والدمار الشامل.

&

وقد وضع خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز العالم كله قبل أيام أمام مسؤولياته في العمل معاً لمحاربة الإرهاب ونبذ العنف وتلبية ندائه للبدء فوراً بحوار بنّاء يقوم على التسامح، وعبّر بذلك عن مكنونات ومشاعر كل عربي وكل مسلم، باستثناء قلة منحرفة.

&

وكان الملك عبدالله قد وضع اللبنة الأولى لهذا العمل البناء، ورسم خريطة طريق لكي ينجح الحوار بين الحضارات والأمم والأديان، وصولاً الى التعايش والتعاون والتآلف ومن ثم تبني سياسة تحالف الحضارات والثقافات، بدلاً من دعوات الصراع الهدامة.

&

فقد جاءت دعوة خادم الحرمين الشريفين الى الحوار بين المذاهب لكي تضرب الفتنة وهي في مهدها في وقتٍ حرج بعدما وصلت الى حافة الانفجار وباتت تشكل خطراً على العرب والمسلمين وتهديداً لحاضرهم ومستقبلهم وقبل دخولهم في أتون حرب ضروس تأكل الأخضر واليابس وتثلج صدور الأعداء وتقدم لهم خدمات كبرى وتعطيهم القدرة على الهيمنة والسيطرة على مقاليد الأمور في المنطقة بأسرها، وإسرائيل بالذات تسعى إلى تحقيق هذا الهدف الخبيث منذ زمن بعيد، وهي لا تخفي محاولاتها الدولية وسعيها الحثيث لتشجيع البعض على خوض غمار هذه الحرب المدمّرة، فصرنا نسمع أصواتاً تتكرر بين الحين والآخر تدعو إلى الاقتتال تحت شعارات طائفية ومذهبية.

&

ولو تحقق ذلك، لا قدر الله، فإن إسرائيل ستكون الراعي الأكبر والمستفيد الأكيد، لأن يدها ستكون العليا في المنطقة، ولأنها تملك الإمكانات والقدرات العسكرية والمالية وتلقى الدعم الخارجي المتزايد وسط غابة من الدول الضعيفة المتأخرة التي لا حول لها ولا قوة.

&

من هنا تأتي أهمية جهود الملك عبدالله ومساعيه الحميدة لإنجاح الحوار بين المذاهب كخطوة مهمة بالتوازي مع جهوده الخيرة لإنجاح حوار الأديان والحضارات والتي توجت بإنجازات مهمة تمثلت في الخطوات التالية:

&

في 6 تشرين الثاني (نوفمبر) 2007 أول اجتماع تاريخي بين خادم الحرمين الشريفين والبابا بينيديكتوس السادس عشر للبحث في مسألة الحوار والسلام بين الأمم.

&

في 4 - 6 حزيران (يونيو) 2008 أول مؤتمر إسلامي دولي للحوار في مكة المكرمة بحضور أكثر من 500 شخصية إسلامية قيادية لإقرار مبدأ الحوار مع الأديان الأخرى.

&

في 16 - 18 تموز (يوليو) 2008 عقد مؤتمر دولي للحوار بين الأديان والثقافات ووضع أسس انطلاقته.

&

في 13 تشرين الثاني (نوفمبر) 2008 إعلان الأمم المتحدة (الجمعية العامة) للحوار.

&

في 13 - 14 تموز (يوليو) 2009 مؤتمر الحوار العالمي في فيينا للبحث في سبل إنجاح الحوار وإقامة مركز دولي لإدارته.

&

في 30 أيلول (سبتمبر) 2009 مؤتمر دولي آخر بحث في الوسائل الكفيلة لتحقيق هذا الهدف السامي وفق مبدأ: «ما يجمعنا أكبر مما يفرّقنا».

&

في 13 تشرين الأول (أكتوبر) 2011 تم التوافق على إقامة مركز للحوار في فيينا بين المملكة العربية السعودية وإسبانيا والنمسا.

&

في 26 تشرين الثاني (نوفمبر) 2012 جرى افتتاح المركز في احتفال كبير في العاصمة النمسوية.

&

هذه الانطلاقة التاريخية وصفها الدكتور فيصل بن معمر، الأمين العام للمركز، بأنها لا تمحو تاريخ الآخر، بل هي خطوة للتعلم من الدروس الماضية والتبرّؤ من الأفعال التي قسمت الشعوب وقادت إلى النفق والصراعات الطويلة. من هنا، فإن المركز الحضاري سيتحول الى ملتقى للقارات والحضارات من أجل التعليم وفهم الآخر وحضارته وثقافته وقيمه حتى يعمّ السلام ونعيش بأمان.

&

وما تحقق يجب أن تتبعه خطوات جدية أخرى لتلبية النداء التاريخي للملك عبدالله من أجل نزع فتيل الفتن والصراعات والمضي قدماً في سياسة الحوار والتآلف، وتضافر الجهود في سبيل تحقيق ما هو مطلوب وملحّ، أي تحالف الحضارات من أجل خير البشرية ودفن نظريات «صدام الحضارات» والفتن الطائفية والمذهبية إلى الأبد.

&


&