سمير عطا الله

في نهاية هذه الحلقات، إني مدين باعتذار عميق. فقد كنت مسافرا لا أليق بهذه الصفة. اكتشفت الآن أنني لم أسافر إلا في المدن والعواصم. لم أغامر مرة في الذهاب إلى مصر الداخلية. لم أتجاوز نيروبي إلا مسافة ساعتين، عدت بعدها خائفا إلى الفندق حاملا صورا لا تُنسى عن حياة البشر على هامش هذه الحياة. وربما كان ما رأيت جزءا عن صورة الجحيم البارد قبيل الوصول إلى مرحلة النار. لم أتجاوز جاكرتا إلا مسافة ساعتين. وكان المشهد محزنا. غليظ الفقر، حتى من بعيد، وسيئ السمعة وسيئ الذكر، وغلظته ترقق العظام.


العواصم ليست هي الأوطان. والمدن ليست الدول. هناك مليارات الهامشيين الذين لا يمكن أن تراهم إلا إذا كان ذوقك يسمح بحضور الأفلام الهندية. سافرت مرتاحا في الداخل الأميركي لكنني لم أجرؤ مرة على الذهاب إلى «هارلم» القريبة بضع دقائق من حيث أنا. لا يطاق مشهد الفقراء، مقرونا بعجزك عن أن تفعل أي شيء. رأيت في مومباي وبعض آسيا وبعض أفريقيا أيادي الأطفال والعجائز والمقعدين تمتد للسابلة كأنها فرقة رياضية تؤدي عملا. بشر فقدوا كل كرامة بشرية ولم يبق لهم سوى الرصيف والسماء مهما تغيرت الفصول وتقلب النهار والليل.


حتى عندما كنت شابا جبنت عن السفر في أعماق البلدان، خاذلا مهنتي، مبتعدا عن الصور التي تنطبع في الذاكرة مثل الجرح الغائر.


في الدول «الصناعية» قلما تتغيَّر عافية الوجه عن وهن الجسد. تسافر في كندا ألفي ميل من دون أن ترى حفرة في الطريق أو جائعا إلى جانبها. وتسافر في فرنسا وبريطانيا من دون شعور بالفوارق بين الحضر والأرياف. البلد الأفريقي الذي لم أرَ فيه أيادي ممدودة كان السودان. أتحدث عن منتصف الستينات قبل أن تقتحم الأيدي الباغية غلة الناس وما تيسَّر من خيرات النيلين.


عندما أقرأ كتب الرحّالة القدامى والكتّاب المحدثين، أشعر بالخجل. لقد تكبّدوا كل مشقّة في سبيل وضع فصل آخر لكتاب انطباعات آخر. ما تكبَّدته في البدايات كان تلقائيا وليس عزما. ولم يكن كثيرا. لقد سافرت في قطارات أوروبا الشرقية وليس في شاحنات الصحارى الأفريقية مثل رزيارد كابوشنسكي أو بول تيرو أو بقية المبهرين الذين جعلوا السفر في بلاد الإنسان ما هو حقا، أي حكاية من الحكايات، ولكن بألوان أكثر وواقعية أكثر من شجاعات السندباد وهو يجوب البر والغاب والبحر يملؤه سفينا.


عندما أصدرت «أوراق السندباد» ظن كثيرون أنني سوف أتحدث عن حياة في السفر. لكن مثل هذا التبجّح لا يمكن أن يخطر لي. لقد وضعت أسفاري تحت عناوين مثل «مسافر بلا ميناء»، و«ناس ومدن»، و«مسافات في أوطان الآخرين». وقد تصدر هذه الحلقات تحت عنوانها «مدن الصيف». والحقيقة أن كثيرا منها هو مدن الشتاء أيضا. يروي لي الزميل سمير صنبر أنه يحفظ معه قطعة كتبتها عام 1961 عنوانها «جاف وألهو بالرحيل». الآن مليء بعائلتي وأحلم بالاستقرار.


شكرا لاهتمامكم.