أحمد عبد المعطي حجازي

قبل أيام قرأت تصريحات لدبلوماسى بريطانى كشف لى الكثير من سياسات الدول الغربية وخططها لإحكام سيطرتها على بلادنا ومحاصرتها من كل الجهات لتبقى حبيسة فى ماضيها المظلم لاتخرج منه إلى الحرية والنور،

على العكس بالظبط مما تدعيه هذه الدول وتزعم فيه أنها تبشر عندنا بالديمقراطية وحقوق الإنسان وتشجعنا على التقدم والخروج من حكم الطغاة.

الحكام الغربيون والدبلوماسيون الذين يمثلونهم والصحفيون الذين يدورون فى فلكهم كذابون يتآمرون علينا وينصبون لنا الفخاخ التى ظللنا نقع فيها وننهض لنواصل الوقوع دون أن نكتشف الخديعة ونفوت الفرصة على المخادعين.


لقد أدرك هؤلاء أنهم يضمنون وجودهم الاستعمارى فى بلادنا طالما كان الحكم فيها للطغاة.. ويستوى عندئذ أن يكون الطغاة أجانب أو من أبناء البلاد، لأننا نحن المحكومين سنكون فى الحالين مقهورين مستبعدين لا حرية لنا ولا إرادة ولاقول ولا فعل.. وهذا هو الشرط الذى تحرص الدوائر الاستعمارية الغربية على أن يتحقق لتضمن مصالحها فى بلادنا.


هذه الدوائر وقفت دائما إلى جانب الحكام العرب الطغاة سواء كانوا حكاما بالوراثة، أو بانقلاب، أو بانقلاب على هيئة انتخاب.


نظام مبارك كان بالنسبة لهذه الدوائر نموذجا للنظام المطلوب بالشروط اللازمة. وإذا كان الأمريكيون قد أسقطوا نظام صدام فقد استبدلوا به ما هو أسوأ منه.. وما يقال عن علاقتهم وعلاقة الدوائر الغربية عامة بنظام صدام يقال عن علاقتها بنظام القذافى وسواه من النظم التى لا تختلف كثيرا عنه فى المنطقة.


وقد رأينا أن الأمريكيين والغربيين الذين اضطروا فى النهاية تحت ضغط الجماهير العربية الثائرة للتخلى عن مبارك والقذافى وبن على رشحوا لخلافتهم الغنوشى ومحمد مرسى وميليشيات تطبيق الشريعة فى ليبيا، وذلك بالاتفاق مع مشايخ قطر ومن يخدمونهم من زعماء الإخوان واتحاد القرضاوى والسلطان العثمانى المتنكر رجب أردوغان!


يقول هذا الدبلوماسى البريطانى الذى بدأت بالحديث عن تصريحاته، وهو سفير سابق فى سوريا والعراق، إنه من المستحيل تطبيق الديمقراطية الغربية فى بلاد الشرق الأوسط.. لماذا يا إكسلانس؟ قال: لأن الشعوب العربية لا تخضع لسلطان القانون.. لهذا لم يستطع الربيع العربى أن ينشئ نظاما ديمقراطيا، وإنما فتح المجال للفوضى التى هى البديل الوحيد بالنسبة لنا عن الطغيان! فى البلاد الأخرى يكون الخيار بين الطغيان والديمقراطية أما فى بلادنا فالخيار بين الطغيان والفوضي. وذلك لأننا لسنا فى نظر هذا السيد شعوبا، وإنما نحن طوائف وقبائل وجماعات تدير حياتنا وتقضى حاجاتنا بتقبيل أيدى من ندين لهم بالولاء أكتافهم وأنوفهم، وليس بمالنا من حقوق مقررة وبما يضمنه لنا هذه الحقوق من القوانين الملزمة!


المجتمعات الأوروبية هى وحدها التى تستطيع فى نظر هذا الدبلوماسى العنصرى أن تنعم بالديمقراطية، لأن الشعوب الأوروبية شعوب ناضجة متحضرة تجمع بين أبنائها الروابط الوطنية والإنسانية، أما عندنا فالروابط التى تجمعنا هى النسب والدين والطائفة، وهى تفرق بيننا أكثر مما تجمعنا!


وسوف نفترض أن هذا هو الواقع الراهن، فهل يكون هذا الواقع طبيعة متأصلة فينا؟ وهل هو قضاء لا فكاك منه يفرض علينا حكم الطغاة؟ أم أنه مرحلة فى تاريخنا تنتهى حين نخرج من رابطة الأسرة والطائفة إلى رابطة الأمة والوطن، وننتقل بالتالى من حكم الطغيان إلى حكم الديمقراطية؟


والجواب الواضح فى تصريحات هذا الدبلوماسى أنه لا يرى أى مستقبل للديمقراطية فى بلادنا، ولهذا ينصح بلاده بأن تراهن فقط على النظام الذى يضع حدا للفوضى ويحقق الاستقرار. ولن يكون هذا النظام إلا طغيانا جديدا يقهر شعوب المنطقة ويحافظ على المصالح الغربية فيها. فإذا كانت الشعوب العربية قد ثارت وأسقطت الطغاة واختارت الفوضى فباستطاعة الغرب أن يشارك فى هذه الفوضى من خلال الإخوان وحلفائهم الذين أعلنوا الحرب على الدولة والمجتمع.


الغرب دائما حاضر باستطاعته أن يقف إلى جانب الطغيان. وباستطاعته أن يقف إلى جانب الفوضي، وباستطاعته أن يصنعها ويصدرها لنا كما فعل مع بن لادن والقاعدة. لكنه سيقف دائما ضد الديموقراطية، لأن الديمقراطية مستحيلة بالنسبة لنا!


لم يقل لنا هذا السيد إن كانت هذه الديمقراطية المستحيلة بالنسبة لنا مستحيلة أيضا بالنسبة لإسرائيل؟ وإذا كنا لا نستطيع أن نقيم نظاما ديمقراطيا فى بلادنا لأن الديمقراطية نظام غربى لا يصلح إلا للغرب فلماذا نجحت الديموقراطية فى اليابان؟ ولماذا نجحت وتوطنت فى الهند؟ وإذا كان الطغيان نظاما شرقيا أو عربيا لماذا قبله الروس من ستالين، والألمان من هتلر، والإيطاليون من موسوليني، والإسبان من فرانكو، والبرتغاليون من سالازار؟


ومتى عرف الغرب هذه الديموقراطية التى تنسب له؟ فى العصور القديمة التى كانت فيها معظم الشعوب الأوروبية قبائل متبربرة؟


أثينا التى بدأت منها الديموقراطية لم يكن لها تاريخ قبل الألف الأول السابق على الميلاد. وروما كانت إلى القرن الثامن قبل الميلاد قرية بائسة. والعصور الوسطى الأوروبية لم تكن إلا عبودية فى عبودية وظلاما فى ظلام. والديمقراطية فى العصور الحديثة لم تولد مكتملة، وإنما بدأت امتيازا لطبقات دون أخري، وللرجال دون النساء.


الديمقراطية اذن ليست جغرافيا. وإنما هى تاريخ خبرة إنسانية تتطور وتنمو، وتتقدم بشروط، وتتراجع بشروط يعرفها الغربيون جيدا ويحرصون على أن تكون شروط التراجع هى السائدة فى بلادنا حتى تظل الديمقراطية مستحيلة. وإذن فالطغيان هو الحل أو الفوضي، وفى كلا الحالين تظل المصالح الغربية مصونة مضمونة!


حين ثار المصريون على الاحتلال البريطانى ثاروا فى الوقت ذاته على استبداد الملك، وهكذا كان التخلص من الاستعمار مشروطا باعلان الدستور وبناء الديمقراطية التى بدأت مسيرتها فى مصر قبل أن تبدأ فى الهند واليابان. وحين فرط المصريون فى الديمقراطية تعرضت مصر وتعرضت المنطقة كلها لما نراه من تراجع وتمزق.


كيف حدث هذا؟


حدث هذا بالجريمة التى ارتكبها الاستعمار الغربى فى بلادنا مع سبق الاصرار والترصد. فاذا كانت الحرية قد ارتبطت بظهور الأمة وحلول الدولة الوطنية محل الدولة الدينية، فالخطة التى وضعها الغربيون والبريطانيون بالذات هى تدمير الدولة الوطنية فى الأقطار العربية وتشجيع التيارات الدينية وتسليم الشرق الأوسط للطوائف المتصارعة، والبداية وعد لليهود بوطن قومى فى فلسطين، وتزويد حسن البنا بالمال الذى يلزمه لتكوين جماعة تحارب الدستور والديمقراطية والوطنية المصرية وتسعى لإحياء الخلافة الإسلامية، وهذا هو ما تقوم به داعش فى سوريا والعراق.


هكذا سقطت المنطقة من جديد فى أيدى ضباط الانقلابات، وزعماء القبائل ورؤساء الطوائف وأمراء الجماعات واستحالت الديمقراطية التى خرجت شعوبنا تطلبها فى الربيع، ولم يعد أمامها الا أن تختار بين طريقين لاثالث لهما: الطغيان أوالفوضى اللذين يعصفان الآن بليبيا وسوريا والعراق. لكننا لن نكون وحدنا الضحايا. الصحفى الأمريكى جيمس فولي، ذبح هو أيضا كما ذبح المسلمون والمسيحيون واليزيديون فى العراق!

&