&مصطفى الكاظمي

ليست ثمّة نصيحة توجّه إلى الوسط السياسيّ العراقيّ في مختلف توجّهاته اليوم، أكثر أهميّة من ضرورة عدم إضاعة بوصلة الأولويّات. ففي بلد ممزّق عمليّاً يسيطر الإرهاب على أجزاء واسعة من مساحته، ويواجه شعبه تحدّيات وجوديّة وحرب إبادة حقيقيّة، سيكون كارثيّاً على كلّ المستويات أن يضيع قادته في فهم سلّم الأولويّات.

على خلفيّة الجدل الذي يحدث في الأروقة السياسيّة حول تشكيل الحكومة، تبرز إلى العلن ظواهر غريبة، فالأحزاب والكتل والشخصيّات تبدو منعزلة عن الوقائع على الأرض، وهي تخوض مفاوضات لتشكيل حكومة على القياسات التي شكّلت فيها الحكومات السابقة.

&

فالأحزاب الشيعيّة تتصادم في الأروقة السياسيّة، وتتجادل حول المناصب التي سيحصل عليها كلّ حزب، والقوى السنيّة ترفع سقف مطالبها، وتطرح 18 مطلباً للمشاركة في الحكومة، وهي تتصارع في ما بينها حول المناصب والامتيازات أيضاً…

... فيما يربط الأكراد تشكيل الحكومة بسلسلة من المطالب حول حلّ النزاعات التاريخيّة مع بغداد، والمناطق المتنازع عليها، وتصدير النفط.

واقع الحال أنّ الكثير من مطالب القوى العراقيّة، منطقيّ وهو يمثّل جوهر الأزمة العراقيّة القائمة منذ سنوات حول تعريف الحكم، وحقوق المحافظات والأقاليم وصلاحيّاتها، والعلاقة بين السلطات، وأسلوب قيادة القوى الأمنيّة والجيش، ومصير الميليشيات والمجموعات المسلّحة، ومعالجة تركة الماضي وتحديّات الحاضر.

فهي في حاجة إلى توافق سياسيّ شامل وحقيقيّ، يعدّ برنامجاً سياسيّاً للحكومة والبرلمان على حدّ سواء، لإنتاج حلول دائمة لكلّ تلك الأزمات.

يدلّ السقوط من جديد في فكرة رئيس الحكومة "كليّ القدرة" المطالب بحلّ كلّ الأزمات، واتّخاذ كلّ القرارات، على أنّ القوى السياسيّة العراقيّة المختلفة لم تقرأ في شكل صحيح الخلل الذي قاد إلى أزمات الحكومتين العراقيّتين الماضيتين، وهو خلل يتعلّق في الأساس بعجز القوى السياسيّة عن إنتاج حلول سواء عبر البرلما أم عبر الحكومة.

والأهمّ أنّ إنتاج حلول يختلف عن وضع خرائط طرق لهذه الحلول. والأولويّة اليوم، لا تتعلّق بقرارات تنتج حلولاً جذريّة لأزمات ممتدّة ومعقّدة، وإنّما بوضع خريطة طريق لكلّ أزمة، والمضي في حلّها سواء عبر الحكومة أم البرلمان.

وبالعودة إلى جدل الأولويّات، فإنّ تحدّي الحرب على الإرهاب، أولويّة ضاغطة، تحتاج إلى تشكيل حكومة منسجمة وجامعة، ووضع آليّات لقيادة جهد عسكريّ شامل لتحرير الأرض التي يسيطر عليها تنظيم "الدولة الإسلاميّة"، واستثمار الزخم الدوليّ الذي يتصاعد لدعم العراق في هذه الحرب، ومن ثمّ المضي في إجراء إصلاح سياسيّ وقانونيّ واقتصاديّ شامل، يمنع العراق من الانزلاق مرّة أخرى في الهوّة التي سقط فيها اليوم.

يمكن أن يلعب رئيس الحكومة المكلّف حيدر العبادي دوراً في توصيف سلّم الأولويّات، ووضع القوى المختلفة في صميم برنامج حكوميّ رصين يوفّر تطمينات وضمانات مناسبة لكلّ الأطراف للمضي في معالجة الأزمات حسب أولويّاتها.

أمّا البدء في مفاوضات تشكيل الحكومة، من تحقيق مصالح أفراد أو أحزاب أو كتل، ودفع الأولويّة الوطنية إلى الخلف، فهو طريق سيقود بالضرورة إلى المزيد من الأزمات والانهيارات.

على القوى العراقيّة أن تدرك أنّها لا تملك الوقت ولا الإمكانات لتحقيق كلّ الأهداف المطروحة على الطاولة بجهد ذاتيّ. وعليها أن تفهم أنّ الزخم الإقليميّ والدوليّ، الذي يحتشد في هذه اللحظة لإنجاح الجهود السياسيّة لتشكيل الحكومة، ودعم العراق في مواجهة "الدولة الإسلاميّة" لن يكون دائماً، وعلى الأقلّ لن يكون بالحماس الحاليّ، في حال لمس المجتمع الدوليّ من جديد أنّ الأحزاب العراقيّة انشغلت في خلافات المصالح، ورفضت تقديم التنازلات لتحقيق التوافقات الصعبة من أجل إنقاذ البلد.

الوقت بالتأكيد ليس مفتوحاً أمام العراقيّين، فالتحدّي المصيريّ الذي يمثّله تنظيم "الدولة الإسلاميّة" موجود على أبواب بغداد، وينتشر في نحو 30 في المئة من الأراضي العراقيّة، وهناك أكثر من مليوني نازح عراقيّ، وخسائر بشريّة ومالية تزداد فداحة.

&