حسين شبكشي

في حسابات الربح والخسارة تكون الأمور قابلة للحساب وبالتالي يكون من الممكن تكوين وصف دقيق جدا للرابح والخاسر. الآن وبعد اتفاق وقف إطلاق النار الذي حصل برعاية مصرية بين إسرائيل والوفد الفلسطيني، خرجت أصوات من الفريقين كل منها يدعي النصر والانتصار.


من أهم أسباب انتكاسات العرب السياسية هو خلطهم المستمر والعقيم بين الأماني والرغبات وبين الحقائق والواقع، ولعل ما حصل مع عبد الناصر والهزيمة الساحقة التي تعرض لها على أيدي النظام الإسرائيلي المعتدي عام 1967 وسماها الإعلام الناصري وقتها تخفيفا أو تلطيفا إنها مجرد «نكسة» وكذلك ما حصل مع نظام الطاغية صدام حسين عندما أخرج من الكويت التي احتلها مغتصبا وسمى ما حصل بأنه «أم المعارك» ووصف حاله بأنه المنتصر من هذه المواجهة خير دليل على ذلك، وبالتالي لا بد من تقييم حقيقي وغير عاطفي لما حصل في المواجهات بين إسرائيل وحماس. الخسارة البشرية بالأرواح والإصابات هي لصالح إسرائيل التي لم يتوفَ منها سوى خمسة من المدنيين و67 عسكريا بينما توفي أكثر من ألفي شخص في غزة والضفة الغربية - النسبة الكاسحة منهم (أكثر من 90 في المائة منهم) من الأطفال والنساء، وحصل دمار مروع في المساكن والمباني بقطاع غزة مقابل خدوشات بسيطة لا تكاد تذكر بالنسبة للجانب الإسرائيلي. حجم المأساة في غزة كان مهولا بشكل لا يمكن إنكاره لأن حجم العدوان الإسرائيلي كان دمويا ومتوحشا وغير أخلاقي، ولكن ما الذي خسرته إسرائيل؟


إسرائيل خسرت الكثير والكثير جدا في نفس الوقت؛ فهي لم تعد بالإمكان أن تروّج لنفسها في الأوساط الشعبية في الغرب أنها دولة مسالمة «تدافع» عن نفسها أمام «وحوش» يحيطون بها، فهي هناك معتدية بامتياز وتقتل الأطفال والنساء وتحطم دور العبادة، وملاجئ المنظمات الدولية. إسرائيل تتعرض الآن لحملة منظمة ومتصاعدة لمقاطعة بضائعها ومنتجاتها وفنانيها وأدبائها ومفكريها بشكل غير مسبوق ومن منظمات في دول كانت من أهم مسانديها. رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو كان يحلق على نشوة الدعم غير المسبوق الذي حصل عليه من استطلاعات الرأي العام في إسرائيل والذي تجاوز الـ80 في المائة كنسبة التأييد التي حصل عليها ولكن في الاستطلاع الأخير للرأي هبطت النسبة إلى مستويات تحت الـ40 في المائة، فالإسرائيليون يلومونه على عدم تحقيق أهداف الاعتداء على غزة، وهو تحطيم والتخلص من كافة الأنفاق السرية التي بنتها حماس كشبكة معقدة ومؤثرة، وهي المسألة التي لم تستطع القوات الإسرائيلية تحقيقها ولم تستطع القضاء على حماس كقوة عسكرية، فهي احتفظت بسلاحها دون أن تجرد منه وبذلك يبقى «التهديد» قائما منها وتم التحرير الجزئي للقطاع بالسماح بدخول الاحتياجات الإغاثية من مؤونة غذائية وعتاد طبي بالإضافة إلى التجهيزات المطلوبة لإعادة الإعمار لما تم تلفه من مبان ومقار، وكذلك تم السماح بتحسين الحراك البحري لمرفأ غزة.


إسرائيل تعرضت لتوصيفات غير مسبوقة في الإعلام الغربي «الحليف التقليدي لها»، وهي قامت بالرد عن طريق مؤسسات داعمة لها في بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة وكندا بنشر إعلانات مدفوعة الثمن في أهم الصحف ووسائل الإعلام تهاجم فيها حماس بضراوة وتستنكر عقد صفقة مع «مجرمين» متناسين أن إسرائيل ولدت من رحم منظمات إجرامية مثل «أرغون» و«شتيرن»، وهما اللتان أخرجتا مناحم بيغن وإسحاق شامير اللذين جاءا لاحقا كرئيسي وزراء لإسرائيل، وكذلك كان نيلسون مانديلا مصنفا كزعيم إرهابي للمجلس الوطني الأفريقي الذي كان بدوره يصنف كجماعة إرهابية. إسرائيل مضطرة لأن تجلس أمام من تصنفهم كإرهابيين ولكنها خسرت الكثير جدا وهي لا تزال تترنح من حجم تلك الخسارة ولكن خسارة الأرواح والدمار الذي حل لا يمكن أن يسمى انتصارا.


فلسطين هي معركة الحق الأكبر، ولكن المطلوب التعامل مع كل جولة بالحقائق لا بالعواطف.

&


&


&

&


&

&