رغيد الصلح

تقف بريطانيا على مشارف محطة مهمة في تاريخها، وربما في تاريخ العالم الأطلسي بصورة عامة . ففي الثامن عشر من شهر سبتمبر/أيلول المقبل يقترع الاسكتلنديون في شمالي الجزيرة البريطانية على تقرير مصيرهم وتحديد مستقبل علاقتهم مع المملكة البريطانية . أغلب الاستطلاعات ترجح بقاء اسكتلندا داخل البيت البريطاني، ولكن البعض منها يدل على أن نسبة الذين يغيرون رأيهم ويتجهون إلى الاقتراع لمصلحة الانفصال تزيد يوماً بعد يوم . إذا تم الانفصال الاسكتلندي بالفعل، وقامت دولة اسكتلندية مستقلة يكون هذا التطور أول حدث من نوعه . حتى الآن وقعت الأغلبية الساحقة من الانفصالات داخل دول المعسكر الشرقي السابق وفي الدول العربية .


الانفصال الاسكتلندي سيكون، إذا تم، أول انفصال يقع في دول الأطلسي . ويخشى هنا أن يتحول إلى سابقة تشجع حركات الانفصال المتراجعة خاصة في جنوب أوروبا (إيطاليا وإسبانيا) على النهوض من جديد . هذا التطور سوف يشكل تحدياً مهماً للحلف الأطلسي . علاوة على ذلك، فإن الأطلسي يعتمد إلى حد كبير على خبرات القوات المسلحة البريطانية القتالية وعلى قدراتها في مجال الاستخبارات، فإذا ضعفت هذه القدرات ينسحب الضعف على الأطلسي برمته . على الصعيد السياسي أيضاً، فإن خروج اسكتلندا من البيت البريطاني سوف يؤثر في مكانته الدولية، مما قد يزيد الضغوط من أجل إعادة النظر في أوضاع مجلس الأمن وفي عضوية بريطانيا وفرنسا الدائمة فيه . هذه الاحتمالات سوف تؤدي الى تداعيات تؤثر في الولايات المتحدة وفي علاقتها بأوروبا ونفوذها الدولي ودورها داخل المنظمات الدولية .


إذا انفصلت اسكتلندا عن بريطانيا، فإن هذا الحدث الخطر لن تكون له نتائج سياسية وعسكرية فحسب، بل ستكون له نتائج فكرية مهمة . وفي وقت تخوض فيه قوى العالم الكبرى صراعاً على كسب العقول وتصنيع المعتقدات، فان الجدل المستمر حول مصير اسكتلندا يفتح العديد من الأبواب الفكرية والنوافذ العقدية المغلقة . ويتمحور قسم كبير من هذا الجدل حول المسألة القومية . وتبرز هنا مدرستان: واحدة تضع كل القوميات- ما عدا الحركات القومية المتطرفة مثل النازيين والفاشست- في سلة واحدة فلا تفرق بينها، وأخرى تقسم بدورها القوميات إلى نموذجين: انفصالي وتوحيدي .


يعتبر بعض ناقدي القومية الاسكتلندية أنها من نماذج القوميات الانفصالية . ويرى أريك هوبزبوم، أحد أبرز مؤرخي هذا العصر، ومعه ليبراليون وأمميون أطلسيون، أن القومية الاسكتلندية تشكل إجابة رديئة عن السؤال الذي سعت القوميات إلى الاجابة عنه ألا وهو: ما هو الحجم الأفضل للدول؟ الجواب الذي كان شائعاً عندما بدأ صعود الحركات القومية في أوروبا هو الدولة المتوسطة أو الكبيرة الحجم، بالقياس إلى متطلبات الدفاع عن أمن وسيادة تلك الدول واقتصادها القومي والحاجة إلى الأسواق الواسعة . لذلك كان من الطبيعي أن تتسم الحركات الرامية إلى بناء الوحدات القومية، مثل القومية الألمانية والإيطالية خلال القرن التاسع عشر بالطابع التوحيدي . حركات التوحيد القومي أدت إلى تكبير حجم الدول وكذلك حجم الأسواق وتنوع المنتوجات والصادرات إلى الأسواق العالمية، وإلى المزيد من التنافس بين المنتجين الذين دخلوا الأسواق العالمية على متن الدولة القومية . من دون هذه الحركات كان على المدن-الدول الإيطالية والألمانية أن تبقى صغيرة الحجم والإمكانات وغير قادرة على منافسة الدول-القومية مثل فرنسا وبريطانيا .


ووجد الذين يميزون بين القوميات الاتحادية والانفصالية أن الثانية بدأت مرحلة صعود خلال النصف الثاني من القرن العشرين بسبب العولمة التي ألغت الحاجة إلى "دول الاقتصاد المتوسط وحتى الكبير"، واسقطت مسألة حجم الدول من حسابات القوى الدولية المهيمنة . في عصر الشركات العملاقة العابرة للأقطار والقارات لم تعد للدول أصلاً الحاجة نفسها التي كانت قائمة سابقاً، بل أصبحت الدول أقل أهمية من الماضي . وبعد أن فقدت الدول مكانتها وهيبتها، لم يعد من الصعب الخروج عنها والتفيش عن بدائل لها والمطالبة بتجزئتها وتفكيكها . لم تعد للدولة هيبة ولا لحدودها حرمة . هذا الواقع الجديد، أدى الى تقوية وتزكية حركات الانفصال القومي . وهذا الاتجاه لا يخدم تطور الاقتصاد العالمي، وإن كان يخدم مصالح بعض الشركات العابرة للأقطار والقارات .


سواء كان الأمر متعلقاً بمتطلبات وحاجات تطور الاقتصاد العالمي، أو كان متعلقاً بمستقبل دولة كبرى، مثل بريطانيا، فإن الذين يدعون إلى الإبقاء على الدولة البريطانية هم على حق لأن الحركات الانفصالية تعيق تقدم الأمم والمجتمع الدولي، بدلاً من أن يتطور العالم نحو قيام سلطة عالمية تؤمن العدالة بين الشعوب والأمم . إلا أن مواقف الكثيرين الذين يناقشون مسألة انفصال اسكتلندا انطلاقاً من معايير أممية عامة، سرعان ما يتخلون عن هذه المعايير عندما يناقشون أوضاع المنطقة العربية، فنجد أنهم مع حركات الانفصال في هذه المنطقة بينما هم يعارضونها في العالم الأطلسي الذي ينتمون إليه . إنهم مع انفصال جنوب السودان، ولكنهم ضد انفصال اسكتلندا عن بريطانيا، وهم ضد انفصال ويلز في بريطانيا، ولكنهم مع تفكيك وحدة العراق وقيام عدة دول فيه . إن هذه المواقف تدل على أنهم يناقشون قضية مصير اسكتلندا من منظار قومي وأطلسي، ولا يناقشونها من منظار إنساني أو دولي .


الخطورة في مثل هذه المواقف أنها لا تتخذ من قبل أفراد فحسب، وإنما هي تعتمد من قبل حكومات أيضاً، وتجري ترجمتها بالحديد والنار، وهي تترك آثاراً بعيدة المدى في العلاقات بين العالمين العربي والأطلسي . وفي نهاية المطاف فإنها تؤثر في أمن واستقرار المنطقتين معاً . فقد عملت أوروبا بكل قوة وبذلت جهداً كبيراً في إطفاء الحركات الانفصالية في القارة . ولكن الواقع يدلنا على أن هناك الكثير من التشابك والتداخل بين المصيرين الأوروبي والعربي، وأنه من الخطأ أن يعتبر أي واحد من الجانبين أنه يستطيع أن يدعم بعض الظواهر في بلاد الآخر، وأن يبقى هو محصناً ضدها . حتى يؤمّن الطرفان الهدوء والاستقرار على ضفتي المتوسط، فمن الأفضل لهما أن يتعاونا على معالجة التحديات الانفصالية وضمان سلامة واستمرار الكيانات القائمة في أوروبا والبلاد العربية .