سناء البيسى

&


لأنه ولأنه ولأنه ولأنه ولأنه‏..‏ هرعت فى شوق إليه أقف فى طابور الانتظار لزيارة بيته لأطوف فى أرجائه وأتملى من أشيائه وأغوص فى عالمه وألمس ذا الجدار وذا الجدار‏..‏

لأنه كان الأديب العبقرى الشاعر الإنسان المفكر الرسام رجل القانون والعلم والطب والسياسة ورئيس الوزراء.. لأنه كان أحد رباعية قمم الأدب الغربي: شكسبير وهيروموس ودانتى و.. يوهان فولفجانج جوته.. لأنه كان منصفا.. لأنه وقف شامخا ضد التيار.. لأنه قال كلمة الحق.. لأنه وجد الشرق والغرب يلتقيان.. لأنه الألمانى ابن فرانكفورت الذى شغف بالإسلام وشريعته، والقرآن وبلاغته، ومحمد ورسالته.. لأنه كان قاب قوسين أو أدنى من أن يغدو مسلماً أو أنه بالفعل كان مسلما كما تعكس سلوكياته مثل صيامه رمضان مع المسلمين، وتردده على أحد المساجد للصلاة فيه، ومشاهدته يصلى الجمعة مع بعض الجنود الروس المسلمين في27 يناير1814 فى مدينة فايمر، وحفظه لآيات عديدة من القرآن الكريم، وعقده جلسات فى أحد قصور الأمراء لتلاوة آى الذكر الحكيم، واعتكافه فى العشر الأواخر من رمضان، وعزمه عند بلوغه السبعين على الاحتفال بالليلة المقدسة التى نزل فيها القرآن الكريم ليلة القدر، وتقبلـه للتهنئة فى الأعياد والمناسبات الإسلامية، ورفضه فكرة الصلب المسيحية لدرجة نطقه مرتين بالشهادتين فى كتاباته، وتدوينه مئات الصفحات يمجد فيها ويمدح المصطفى صلى اللـه عليه وسلم، وقراءاته ومحاكاته للمعلقات السبع، ومحاولاته الدؤوب لإتقان الخط العربى للاقتراب من روح الشرق التى غزت قلبه وتملكته فمضى منقبا فى لغات الشرق وآدابه، ليصف الشعر العربى فى الجاهلية والإسلام بأنه ترانيم سماوية.. لأنه وصف أمة العرب بأنها أمة شجاعة باسلة لا تهاب الموت، بل إن الموت يهابها.. لأنه من فرط إعجابه برسالة محمد نطق شعرا يقول: إذا كان الإسلام يعنى التعبد للإله فإننا جميعاً نعيش ونموت مسلمين.. ولأنه عندما عكف على تراجم السيرة النبوية للمستشرقين أدرك عالمية الدعوة ليقول: ما كان لهذا الفيض النورانى أن يبقى مقصورا على الصحراء يغيض فى رمالها وتمتصه شمسها ويصده الكثيب.
عندما أتت ذكراه الـ250 وأعلنت ألمانيا أن عام1999 هو عام جوته وصلتنى دعوة رسمية ألمانية فسافرت وقتها من بيتى القاهرى لبيته الصغير الذى ولد فيه بمدينة فرانكفورت الواقعة على نهر الماين فى شارع جروسن هيرشجرابن فى الثامن والعشرين من أغسطس عام1749، وتجول السياح الذين بلغت أعدادهم فى ذلك العام ما يزيد على خمسمائة ألف زائر، وكنت سائحة بينهم فى حجرات الحقيقة والخيال كما وصف جوته بيته فى مذكراته.. بيت من أربعة طوابق يملؤه الضياء والبهجة التى أصابتها الطعنة فى الصميم بقذيفة مباشرة فى الحرب العالمية عام1944 فتحول الضياء إلى تل من الظلام والرماد والدخان.. ولكن ماذا فعل الألمان؟!.. فى نفس المكان عاد البيت من جديد.. تبرع الشعب الألمانى لمسقط رأس سيد الشعراء والمفكرين وقاموا بتشييد نسخة طبق الأصل من البيت التاريخى القديم، بالاستعانة بأكثر من15 ألف مخطوطة و300 لوحة تعكس صور الحياة المختلفة فى عصر جوته بألمانيا، وساعد الحظ أنهم كانوا قبل الحرب قد نقلوا جميع الأثاث القديم بما فيه من لوحات بريشة جوته ومحتويات المكتبة والمتحف واستمرت عملية مخاض البيت من رحم العدم لمدة أربع سنوات ليطل من جديد بنفس مواصفاته الأولي.. الأربعة طوابق المشيدة بالطوب الأحمر على طراز المبانى فى القرن الثامن عشر.. والحديقة الصغيرة المحيطة التى كانت ملعبا لجوته وشقيقيه يعقوب وكونيليا.. وألوان الحوائط بطابعها القديم ليظهر بعضها مهترئا لاكتساب إطار الواقعية، وحتى مسامير الأرضيات التى تم إحصاؤها عادت مثيلاتها لتثبت الألواح المستطيلة، وعندما تعذر وجود نفس النوعية من ألواح زجاج النوافذ القديمة تقدمت إحدى شركات الزجاج فى بافاريا بفتح خط إنتاج خاص لصنع زجاج يماثل المواصفات القديمة للقرن الثامن عشر.

أزور البيت الجديد القديم لأقف على حافة البئر فى منتصف الساحة الداخلية أكبل اندفاعة يدى المتهورة حتى لا تقوم بالضغط على طلمبة الماء التى كانت «فراو رات» ابنة عمدة فرانكفورت أم جوته تجلب بواسطتها ماء البئر لاستخدامات أسرة ميسورة الحال.. الوالد فيها يوهان كاسبر جوته كان مستشارا للأسرة المالكة وهاويا لاقتناء اللوحات الفنية والنباتات النادرة، والجد كان خياطا جاءه طالع السعد فى صورة زوجة تملك فندقا يدر عائدا ضخما، فانقلب الخياط الماهر إلى مدير فندق أمهر، ولكن مهنته القديمة ظلت تطارد بصداها كـلا من الابن ومن بعده الحفيد فلا يلقيان الحظوة لدى مجتمع الأشراف حتى منح جوته اللقب الألمانى الجليلVon فأصبحVonGoethe ليمضى به قدما تفتح أمامه أبواب المجتمع الراقي.. وظل الأب يوهان ينشد لأبنائه رفعة المقام فأتى لهم بالمعلمين تحت إشرافه فقاموا بتلقين جوته اليونانية والإيطالية والفرنسية واللاتينية إلى جانب لغته الأصلية الألمانية ليجيدها جميعا وهو لم يبلغ بعد الثامنة، وفى التاسعة تعلم الإنجليزية، وبعدها ألح على والده تعلم العبرية ليدرس التوراة بلغتها الأصلية.. ويكتب جوته عن تأثره بأبيه وأمه: من الأب ورثت القامة والصرامة والنظرة الجادة إلى الحياة، ومن الأم الصغيرة صفاء النفس والمرح.. وكان جوته يقصد بتعبير أمه الصغيرة أن والده كان يكبرها بأكثر من ثلاثة وعشرين عاما.. ونزولا على رغبة الأب يرحل جوته إلى لايبزج لدراسة القانون، حيث لم تنل درجة نجاحه المستوى اللائق، وهناك يلتقى بحبه الأول أنا كاترينا ليكتب أول دواوين أشعاره أنيتهAnnette.. ويأتيه وهو فى الخامسة والعشرين خبر انتحار أحد أصدقائه الذى تلهمه مأساته كتابة روايته «آلام فرتر» على هيئة خطابات جميعها صادرة من الأنا، وهذه الخطابات لا تجد ردا من العالم الخارجي، إنها قصة حب تبدأ فى الربيع وتنتهى فى الساعة الحادية عشرة مساء يوم23 ديسمبر توقيت بدء الشتاء أى بدء موت الطبيعة عندما يهزم فرتر فى حبه أمام خصمه فيقرر أن يذهب إلى الغابة ويطلق الرصاص على نفسه!.. ولقد أدى ظهور هذا الكتاب إلى انتشار مرض مميت لدى المراهقين وقتها عرف باسم حمى فرتر، فقد أخذ عشرات من شباب أوروبا الفاشلين عاطفيا يذهبون إلى الغابات فى نفس ملابس فرتر وينتحرون بنفس طريقته فى نفس اليوم المشئوم، وتصل أصداء آلام فرتر السلبية لكاتبها جوته فيضطر آسفا على ما جنت يداه إلى كتابة روايته الجديدة انتصار الحساسية بهدف التقليل من كآبة آلام فرتر والسخرية من العواطف الساذجة لدى ضعاف الأحلام..

ولا يذكر جوته إلا وتحتل رائعته «فاوست» الواجهة.. فاوست الرجل الذى باع روحه للشيطان وانتهت حياته بالعمى فضاق بتعليمات الشيطان التى جرَّت عليه خيبة الأمل، ولم يجد السعادة التى كان يرقبها، فأراد أن يكفر عن خطئه بتجفيف أراضى المستنقعات ليسكنها المشردون والفقراء، وهكذا انتصر فاوست على الشيطان عندما يمم بفطرته فى اتجاه النور الإلهي.. ولقد انعكست شخصية فاوست التى ابتدعها جوته على أعمال عدد كبير من كتابنا فى مصر منها «أهل الكهف» لتوفيق الحكيم، و«دموع إبليس» لفتحى رضوان، و«انت اللى قتلت الوحش« لعلى سالم، و«عبد الشيطان» لمحمد فريد أبوحديد، و«فاوست الجديدة» لأحمد على باكثير.

ويلتقى جوته بنابليون الذى احتلت جيوشه ولاية فيمار انتقاما من الأمير كارل أوجست لأنه آوى بعض الجرحى من جنود وطنه الألمان، وغضب جوته للظلم الذى وقع على الأمير مع أنه لم يفعل سوى ما يحتمه الشرف والضمير، ولكن سرعان ما تحسنت العلاقة ليستدعى نابليون جوته إليه في 2 أكتوبر1808، ولما وصل كان الإمبراطور يتناول إفطاره ومعه تاليران ودارو وبعض حاشيته، فسأل جوته عن عمره وكان قد بلغ الستين فقال الإمبراطور: لقد أحسنت فى الحفاظ على قوتك، وأخذ يتحدث عن الأدب وكتاب «محمد» لفولتير ومدح كثيرا «آلام فرتر» وقال إنه قرأها سبع مرات أثناء حملته على مصر، وناقش جوته فى بعض أجزائها وسألـه عن مدى صلة أحداثها بواقعه، وانتهى الحديث الذى اقترب من الساعة، وبمجرد خروج جوته التفت نابليون إلى من معه قائلا عبارته الشهيرة: Voila un homme بمعنى هذا هو الرجل والرجال قليل.. وبعد المقابلة بأيام كان اللقاء الثانى بين بونابرت وجوته فى حفل أقيم للقائد المنتصر الذى عاود الحديث الطويل مع جوته ليقترح عليه تأليف رواية عن يوليوس قيصر وعظمته والخيرات الهائلة التى كان منتظرا أن يغمر بها العالم لو لم يقض عليه، وكذلك دعاه لزيارة باريس، وقبل سفر نابليون أنعم بنيشان «اللجيون دونير» على جوته الذى لم يشارك الألمان فرحتهم فى سقوط نابليون بعد تحالف دول أوروبا عليه، وكان نابليون هو العامل الأكبر فى إيجاد فكرة الوحدة الألمانية فقد اجتمع الألمان على بغضه والرغبة فى التخلص من استعباده.. وليس غريباً فى تلك السنين العصيبة: سنين إلبا ووترلو ومؤتمر فيينا اتجاه جوته لحياته الخاصة، حيث عقد زواجه الرسمى من كريستيان التى أنجبت لـه الابن أوجست ويعود لها الفضل فى كتابته قصائده البديعة المعروفة باسم «القصائد الروحانية».. ويعود أيضا لتلك الأحداث تحولـه عن أوروبا تماما وتركها وراء ظهره ليلتمس وحيا جديدا ومثارا مؤججا للخيال والشعر والروحانيات فوجد ضالته فى الشرق وكان مفتاحه إليه أشعار «حافظ الشيرازى» و«المعلقات السبع» وغوصه فى عشرات المؤلفات الصادرة عن الإسلام عقيدة وشريعة وتاريخا التى قام بها مستشرقون ومفكرون غربيون ومنها «الديانة المحمدية» للمستشرق الهولندى هارديان ريلاند و«كنوز الشرق» للمستشرق النمساوى يوسف فون هايمر.

ومنذ القرن العاشر عندما بدأت أوروبا تستعد للهجوم على الإسلام برزت فكرة التشويه والتخويف والإساءة إلى العالم الإسلامى لتبرير الاعتداء عليه وتعبئة الجماهير المتدينة فى أوروبا ضده بدعوى استرداد بيت المقدس من أيدى المارقين أعداء الصليب، حيث زجوا باسم الصليب لإثارة المشاعر وتطويع المتدينين للمسارعة للتطوع فى جيوش الحرب التى أسموها «الحروب الصليبية» بينما لم يأت ذكر الصليب على لسان العرب الذين أسموها «حروب الفرنجة» وظل تراث تشويه المسلمين ودينهم وقرآنهم ورسولهم مستقرا فى الوعى الغربى وقواميسه وموسوعاته ومؤلفاته... الأكاذيب والتشوهات التى لم يستطع الخروج عن اسارها أو الانغماس فى مستنقعها إلا قلة ناردة من مفكرى الغرب المنصفين للإسلام كان على رأسهم شاعر الألمان جوهان ولفانج جوته صاحب «الديوان الشرقي» الذى بدأه بهذه الكلمات: «يا أيها الكتاب سر إلى سيدنا الأعز فسلم عليه بهذه الورقة التى فى أول الكتاب وآخره.. أولـه فى الشرق وآخره فى الغرب».. وهو بهذا المعنى الذى يجمع حضارة الشرق بحضارة الغرب يدعو فى وقت مبكر إلى حوار الحضارات على العكس من الشاعر الإنجليزى رديارد كلبنج صاحب البيت الشهير: الشرق شرق والغرب غرب.. لا يلتقيان.

جوته الذى فتنته اللغة العربية وأشعارها ومعلقاتها وأدبها وقواعد النحو والصرف فيها وخطوطها ليقول عنها: «ربما لم يحدث فى أى لغة فى العالم هذا القدر من الانسجام بين الروح والكلمة والخط مثلما حدث فى اللغة العربية، وإنه لتناسق غريب فى ظل جسد واحد».. ولقد ظل جوته يحاكى المخطوطات الشرقية ويظهر ذلك فى ديوانه الذى بلغ فيه المدى من تأثره بالقرآن فى روحه وعباراته، والقارئ سيذكر من الآيات القرآنية أكثر من واحدة حين يقرأ المقطوعات التالية لجوته: للـه المشرق وللـه المغرب وفى راحتيه الشمال والجنوب جميعا، هو الحق، وما يشاء بعباده فهو الحق، سبحانه لـه الأسماء الحسني، وتبارك اسمه الحق، وتعالى علوا كبيرا، أمين.. والناس فى ترديد أنفاسهم آيتان من الشهيق والزفير: هذا يفعم الصدر، وهذا يفرج عنه، كذلك الحياة عجيبة التركيب، فاشكر ربك إذا بليت واشكر ربك إذا عوفيت».. ويعمد جوته أحيانا إلى الاقتباس الصريح من القرآن ومن ذلك اقتباسه للآية الكريمة: «إن اللـه لا يستحى أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها» فيقول فى مقطوعة لـه بعنوان التشبيه: لم لا اصطنع من التشابيه ما أشاء، واللـه لا يستحى أن يضرب مثلا ببعوضة؟ لم لا اصطنع من التشابيه ما أشاء، واللـه يجلو لى فى جمال عيون الحبيبة لمحة من جمالـه رائعة عجيبة.. ولقد أورد جوته بعض أسماء اللـه الحسنى فى الديوان الشرقى بل لقد حرص على أن يستخدم لفظ الجلالة حسب نطقه العربيAllah، ويذكر جوته أن القرآن يكرر قواعد تعاليمه، ويكرر آيات البشير والنذير فى سورة بعد أخرى، وهو لا يرى فى هذا التكرار شعرا بعكس ما يراه النقاد الغربيون لأن محمدا لم يرسل برسالة شاعر لعرض الصور المزوقة من الأخيلة والأوهام لاستحداث اللذة وإدخال الطرب على الأذن، بل إن نبض القرآن بعيد تماما عن هذا الوصف، وإنما محمد نبى مرسل لغرض مقدر مرسوم يتوخى إليه أبسط وسيلة وأقوم طريق وهو إعلان الشريعة وجمع الأمم من حولها، فالكتاب المنزل على محمد إنما بعث للناس ليحفزهم للإيمان باللـه لا لمجرد المتعة والاستحسان، ولذلك نراه إذا ما عرض للقصص الدينى لم يعرضها معرض التاريخ والأخبار، بل يقتصر فيها على مكامن الحكمة ومواضع الاعتبار وضرب الأمثال.. وفى قصيدته «حيوانات محظوظة» فى كتاب «الفردوس» يرى جوته أن بعض الحيوانات سعيدة الحظ ستدخل الجنة، ومنها حمار المسيح عليه السلام، وكلب أهل الكهف، وناقة محمد، وقطة أبى هريرة، لا لشيء إلا لأن النبى الكريم قد مسح بلطف على رأسها: «وها هى ذى هرة بنت أبى هريرة تموء حول سيدها تلاطفه لتبقى حيوانا مقدسا على الدوام فقد مسح عليه النبى عليه السلام»، وفى «باب زليخة» أضخم أسفار ديوان جوته يوجد العديد من الكلمات العربية مثل الهدهد والبلبل التى يكتبها جوته على صورتها العربية فيقول: أسرع، يا هدهد، أسرع إلى الحبيبة، وبشرها بأنى دائما لها وأبدا، ألم تكن فى الأيام الخوالى رسول غرام بين سليمان الحكيم وملكة سبأ!.

ولقد اختار جوته لفظةDivan ديوان التى كتبها بيده على الغلاف بعدما أحضر بعض المخطوطات الشرقية ليحاكى المكتوب أمامه وذلك ليؤكد شرقية أفكاره.. ولقد ظهرت أولى طبعات الديوان عام1819 وقسمه جوته إلى اثنى عشر سفرا: الشادي، حافظ، الحب، التأمل، الحزن، الحكم، تيمور، زليخة، الساقي، الأمثال، الفارسي، والفردوس... وينفتح جوته على إبداعات الشعر العربى يتجول بين أبيات حافظ الشيرازى والفردوسى وجلال الدين الرومي، والسعدي، ليتعلق كثيرا بالمعلقات السبع وشعرائها فيقول عنها: «إنها كنوز طاغية الجمال ظهرت قبل الرسالة المحمدية، مما يعطى الانطباع بأن القرشيين كانوا أصحاب ثقافة عالية، وهم القبيلة التى خرج منها النبى محمد»..

جوته.. ابن فرانكفورت الباحث عن الدفء تحت الشمس العربية أحب العرب واقتبس أسلوب تعبيرهم وألف المسرحيات عن شخصياتهم وأحس بالرقة والمرح وإشراق المعنى فى معلقة امرئ القيس، وبالحيوية والجرأة فى معلقة طرفة بن العبد، وبالرصانة والحكمة والعفة فى معلقة زهير بن أبى سلمي، والبراعة والأناقة فى معلقة لبيد.. ثم توقف عند الكبرياء والتحدى وجزالة اللفظ فى معلقة عنترة، والمهابة والفخامة والقوة فى معلقة عمرو بن كلثوم، ونفاذ البصيرة والشعور بالكرامة فى معلقة الحارث بن حلزة.. ولقد استطاع جوته أن ينبهنا وينبه قومه إلى كنز أدبى عربى فى المعلقات والشعر الجاهلى لا يقل قدرا عن حكايات ألف ليلة وليلة التى شغف الغرب بانطلاقات خيالها.... وكان الرسول من الشخصيات المحورية فى مسرحية جوته الشعرية «تراجيديا محمد» التى كتبها فى فصلين أولهما عن البعثة المحمدية، والثانى حول معاناة الرسول أثناء تبليغه الرسالة وما لاقاه من المشركين، ويقول فى أبيات بعثة محمد: «حينما كان يتأمل الملكوت جاءه الملاك على عجل.. أتاه ومعه النور.. اضطرب من كان يعمل راعياً وتاجرًا فهو لم يقرأ من قبل والملاك أمره بقراءة ما هو مكتوب.. وأمره ثانية: اقرأ فقرأ.. ويصور جوته شخصية الرسول فى القصيدة: «كنهر بدأ يتدفق رفيقا رقيقا هادئا، ثم لا يلبث أن يجيش بشكل مطرد، فيتحول فى عنفوانه إلى سيل عارم يجذب إليه جميع الجداول والأنهار المجاورة ليصب الجميع فى زحفها الرائع فى بحر المحيط.. بحر الألوهية العظيم».. وليس أبلغ من إيمان جوته بالثواب والعقاب من قولـه على باب الجنة لإحدى حوريات بوابة النعيم: «دعينى أدخل.. لقد عشت رجلا.. أى أننى كنت من المجاهدين.. ألا فأمعنى النظر فى فؤادي، واشهدى ما به من جراح الحياة النكراء.. اشهدى ما به من جراح الحب المستعذبة، ومع هذا فما برحت مؤمنا أتغنى بمودة الدنيا الدائرة، وقضائها فى الآخرة حق المحسنين.. لقد عملت مع صفوة العاملين، وجاهدت مع خيرة المجاهدين، وتألق اسمى مثلهم بحروف من نور فى قلوب الأبرار الصالحين».. وتطبيقا فى الاستسلام للمشيئة الإلهية، وانبهارا بأسس التعاليم الإسلامية التى تمزج ما بين الشجاعة والمشيئة يتقبل جوته وفاة ولده أوجست بهدوء، ولا يتبقى لديه سوى الرغبة في أن يهاجر كما هاجر النبى محمد من مكة إلى المدينة.. أن يتواجد فى مكان آخر بعيد.. يرحل إلى الشرق النقي.. إلي.. إلى هناك حيث الطهر والحق والصفاء.. «أود أن أنفذ إلى أعماق الأصل السحيق، حيث كانت الأجناس البشرية تتلقى من لدن الرب وحى السماء بلغة الأرض القرآن الكريم»..

ويظل الحديث عن جوته الشاعر الفحل مجرد إشارة أصبع لفكره وإبداعاته وإسلامياته لنردد من بعده مقولته الأخيرة وهو على فراش الموت: «افتحوا النوافذ ليدخل النور».

وداعاً.. ممدوح جبر

الحقنى يا دكتور الولد نار.. ويلحقنى الدكتور ممدوح جبر عشرات.. مئات.. المرات، وما أن أرى طلعته البهية تملأ فراغ الباب حتى يتراجع قلقى ليأخذنى بعيدًا عن مخاوفى بالحديث عن أحوال مصر قبل أن يضع سماعة الكشف فى أذنيه وهو يربت بأصابعه الحانية المدربة على بطن الصغير العارى المستجيب للمداعبة الكاشفة.. وما لجأ زائر الشفاء النبيل يومًا لاستخدام المضادات مع صغيرى ولكنه علاج النصف قرص ريفو إذا ما تجاوز المؤشر الثمانية والثلاثين.. وكبر ابنى على يديه دونما اللجوء للجراحة المتفشية من حولى للإطاحة باللوزتين لأهميتها البالغة تبعاً لعلمه الواسع فى درء الميكروبات عن الجسم بأكمله.. و..جلست لأرتب أوراق السنين لأكتشف جبلا من روشتات ممدوح جبر عندما كانت زياراته المنزلية فى السبعينيات ـ درءا من عدوى اختلاط أنفاس العيادات ـ لا تتعدى الثلاثة جنيهات.. وأبدًا لم تنقطع وشائج الصداقة بيننا عبر سنوات تخرج فيها ابنى فى الحضانة والمدرسة والجامعة ليختارنى الدكتور ممدوح ضمن وفود الإغاثة التابعة للهلال الأحمر تحت رئاسته، ويرشحنى عضوا بمجلس الإدارة، وأجلس إلى جواره فى حفل تُمنح فيه سوزان مبارك وساماً من إحدى المنظمات الدولية لتلقى خطبة الافتتاح إحدى الخواجات بالإنجليزية ليهمس لى غاضبًا: «ها هم جماعة المستفيدين من حولها يدفعونها دفعاً لدوائر زيف هالات الغرب للترشح لنيل جائزة السلام مما سوف يلهيها حتماً عن الاهتمام بقضية مصر الأولى تجاه معاناة الطفل المصرى».. ورويت لـه فى المقابل ما كان من السيدة فى اجتماع المجلس القومى للأمومة والطفولة الأخير برئاسة السفيرة القديرة مشيرة خطاب عندما اقترحت إحدى العضوات حلا لمشكلة أطفال الشوارع بجمعهم فى معسكرات تدريب صحراوية تحت رقابة صارمة يتخرجون فيها أصحاب مهن شريفة بدلا من هيامهم فى الطرقات، فجاء رد السيدة باترا قاطعا: «أنا ناقصة علشان يقولوا سوزان مبارك بتخطف ولاد مصر وتخبيهم فى الصحراء.. وحياة عيونكم شوفوا لى حلا آخر...» فعاد ممدوح جبر ـ وزير الصحة ـ تسبق زفرته قولته: «ربنا يستر على مصر من شلة المنتفعين ودهاء المستشارين الذين فى قلوبهم مرض، وماسحى الجوخ، والمسئولين المتزلفين واضعى جميع مفاصل الدولة عن طيب خاطر وخواطر تحت رعاية الهانم».. و..ألف رحمة ونور على من لم يغيره القرب الرئاسى ولا المنصب الوزارى ولا الإجماع النقابى ولا المركز الدولى ولا دعاء آلاف اللاجئين فى الخيام فى انتظار الإغاثة للابتعاد يوماً عن ترابيزة الكشف فى عيادته لتلمس مرض طفل صارخ لا يستطيع شرح آلامه، ولا فين يوجعه، ليمتلئ السطح الزجاجى لغطاء مكتب عيادته فى شارع قصر النيل بصور وجوه أطفال أصحاء تم شفاؤهم على يديه وأصبحوا من رجالات مصر الغد..

مضى العالِم الجليل ولم أعلم منه ما تم وما جرى بشأن مرض التوحد الذى استشرى بين أطفالنا الآن، ففى اليوم الذى صادفته فيه داخل المؤتمر الطبى هرعت إليه أستجير فى أمر حفيدى المصاب بالتوحد الذى ظهرت أعراضه بعد حقنه بالمصل الثلاثى ضد السعال الديكى، فما كان منه إلا أن تركنى فجأة يتملكه جام الغضب ليتوجه إلى وزير الصحة الجديد أثناء دخولـه للقاعة ليصرخ فى وجهه: «أنا مش قلت بلاش من الزئبق الزيادة».. وطال بينهما الجدال.. وبدأت أعمال المؤتمر وانزلقت إلى مقعدى مع نهايات الحوار الزئبقى!

وردة لعبدالآخر

واللـه لابد وأن نرسل له تحية عطرة محملة بالتبجيل والاحترام والاعتراف بالجميل الذى طوقنا بمعروفه في التسعينيات ولم يزل القدوة لصانع القرار الصحيح في الوقت الصحيح بالحزم الصريح خاصة في هذه الأيام الفاصلة التى يدور فيها رحى الصراع المرير بين تجار الرصيف والمسئولين.. وردة لمحافظ القاهرة السابق عمر عبدالآخر الذى انتقل بسوق روض الفرج خانق رئات القاهرة من ماسبيرو للسبتية لموقعه الملائم المدروس فى سوق العبور.. لقد لاقى العْتول الصنديد سدودا من جبال الرفض، وفدادين من التربسة، وآلاف من الوساطات والالتماسات والاجتماعات والأخذ والهات، وسطوة البلطجية، ومساومات الأرزقية، والسلاح الأبيض والأسود والتهديد بالقتل، وعليّ الطلاق، ومش ماشى، حاكسر رِجله واقطع دابره، ويضرب راسه فى الحيط، والراجل فيهم يزحزحنا من مطرحنا.. و..الحتة ضيقة واحنا ورانا عيال.. و..يا بخت من بات مظلوم ولا يبات ظالم.. وسوق يا ابنى للعبور مابدهاش..

و..تم المراد لإصرار عبدالآخر وسلامة قضيته ورأسه الصعيدى الناشف، وعقبال الترجمان لتغسل القاهرة وجهها الحضارى من الولاعات والكوبايات وغرز الحشيش والحلبسة والشماعات!!
&