طيب تيزيني

طلع علينا المركز السوري للبحوث منذ أيام معلناً أن ثمة نتائج لدراسات قام بها على الصعيد السوري، وتتعلق بالقطاعات الثلاثة التالية: التعليم المدرسي والبطالة والفقر، فقد جاءت هذه النتائج مدوية مخدرة ومنذرة. لقد أتت تحمل علائم إنذار بانهيار شامل قد يكون الأول من نوعه في القرن، وتحديداً في مرحلتي ما بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية. أتت الحقول الثلاثة المذكورة لتطرح أمام الجميع وعليهم سؤالاً عاصفاً، إنه السؤال من الطراز الذي يجعلك قاب قوسين أو أدنى من «تسونامي» جديد يعرّيك عن الفضائل التي تضعك في عالم العقل والحرية والعمل، أي في عالم الإنسان العاقل والحر والعامل، حيث الطفولة تعيش ذاتها في المدرسة عاقلة وحرة وعاملة، لقد أطيح في الحرب السورية الوحشية بثلاثة أرباع الناتج المحلي حسب مراكز الدراسات والبحوث، ناهيك عن تفكيك وتصديع شطر من تجسيدات التاريخ والتراث السوري كما تتجلى في اللغة والثقافة والعمارة والكنائس والمساجد والاقتصاد والمستشفيات والمدارس والملاعب!


في العصور القديمة نشأت تعبيرات عميقة المعاني والدلالات للأحداث التي كانت تحل بالبشر، خصوصاً أثناء الأزمات والحروب الفتاكة والاجتياحات الكونية، التي تنذر بتدمير الكون والكائنات، وهذا ما نضع يدنا عليه في الأساطير، التي أرّخت بطريقة مذهلة من الرسوم والإشارات ثم من الكتابات التي ظهرت مثلاً، في أساطير جرى البحث فيها بتدقيقها تاريخياً ولغوياً والبحث أيضاً في مضمونها وغيره، وأمامنا النموذج الكبير والمهم على صعيد مثل هذه الدراسات.

لقد برزت «أسطورة جلجامش» نموذجاً دقيقاً وفذاً على هذا الصعيد.

أما هذه الأسطورة فكان منشأها في وادي الرافدين، الذي حفل بحضور كثيف من التاريخ العراقي، ونود الآن أن ننقل شاهداً كلمة من هذه الأسطورة النموذجية للإشارة إلى أحداث كبرى حدثت في حينه، أي بوصفه تعبيراً عن القسوة والعنف والوحشية.

لقد جاء الحديث هنا عن صراعات بين الغزاة والمجموعات أو الشعوب التي حققت استقراراً أو بعض استقرار في أراضي ما بين النهرين، والملفت في ذلك أن الغزاة المهاجمين كانوا قد اكتسبوا تعبيراً لغوياً تمثَّل بـ «العاصفة» وذلك من قبل المجموعات والشعوب المستقرة والتي وجدت نفسها في مرات وأخرى تحت رحمة الهجمات التي جاءت بها من القوى الغازية، فكانت كلمة «العاصفة» بمثابة تعبير منذر ومُرعب لمثل تلك الهجمات الطامحة إلى تدمير كل ما تجده أمامها، أو للانتصار عليها من قبل الثابتين بدرجة أو بأخرى على الأرض التي يعيشون عليها. في تلك الحال، كانت التجارة والحروب والمثاقفة وسائل كبرى لتطرف بعضها على بعض سلباً أو إيجاباً.

إن الكارثة التي كانت تحل بين تلك الشعوب تعتبر عاصفة تعصف بالأخضر واليابس، وتقضي على الزرع والضرع. وقد تجلى ذلك كثيراً في التاريخ الطبيعي والاجتماعي السياسي والحربي ولما كان الأمر يحمل وجهين في حالتين أو مرحلتين اثنتين، فإننا نجد أنفسنا أمام «عاصفة» جديدة لعلها الأكثر شراسة وقسوة في سوريا التاريخ، نعني ما حدث منذ سنة في سوريا وأرّخ له مؤرخون في التاريخ العربي، أي تاريخ الضربة العسكرية الكيماوية للغوطتين الشرقية والغربية قبل عام، وفي مثل هذه الأيام. لقد كانت حصيلة هذه «العاصفة» الأخيرة ما يصل إلى 1500 ضحية من الصغار والكبار والنساء والرجال.

ولقد أصبنا يذعْر لا اسم له، حين علمنا بما حدث في سوريا، أم الحضارات والتعايش بين الطُّرز المتعددة من الثقافات والأديان والطوائف وغيره. هل كان ثمة من الأسباب والعوامل ما أفضى إلى تلك النتائج؟ لا نعتقد ذلك، ولا نريد أن نعتقد ذلك، حتى لو وُجدت أسباب وعوامل له، فهذه الأخيرة - في هذه الأحوال - ستكون قد جُلبت من حقل أو من حقول أخرى، لتتوافق مع الرغبات المؤلمة في تفكيك التاريخ السوري. أي قول ما الذي تبقى من مصائر سوريا الكارثية؟ وهنا نعلن أننا لا نقبل بالقول أي قول - سواء كان تهمة من فريق ضد فريق، أو تلفيقاً وضعه جناح ضد جناح. إن التاريخ لن يُفلت منه، لن تكون هنالك احتمالات للإفلات، كائناً ما كان الأمر.

نعم، لم يعد هنالك إمكانات لإعادة أطفال سوريين إلى مقاعد التعلم، لأنهم يكونون قد صاروا سلالاً يضع فيها الآخرون آمالاً دون أرض تُنضج الحياة. لكن هذا حين يحين قطافه، يكون الرضيع قد أصبح عملاقاً. ويحين وقت دورة كونية يجلس فيها المعلم مكان الرضيع، ويصبح قيد المسائلة التي تتماهى فيها الأسئلة والأجوبة، وفق الموت حقاً والحياة حقاً والمستقبل حقاً! هكذا، هو ما لا يذهب سدى ودون مساءلة.
&