فهد الدغيثر

يتحدث أحد خبراء الأمن البريطانيين في محطة سي إن إن عن توقعات أجهزة الاستخبارات البريطانية التي تشير إلى وجود أكثر من ٥٠٠ «مجاهد» بريطاني في سورية والعراق يقاتلون ضمن مجموعات عدة قد يكون بعضها مناهضاً للآخر. ويعتقد أن الغالبية العظمى منهم التحقت بـ«داعش» في السنتين الأخيرتين، ثم يمضي هذا الخبير في حديثه عن الأسباب التي تدفع بريطانيين إلى ساحات القتال. يقول إن بريطانيا وخلال العقدين الماضيين أصبحت تحتضن ما لا يقل عن ٢٠٠٠ محرض على الجهاد توزعوا على إمامة مساجد الدولة بعد أن خطفوها من المعتدلين. ثم يعزي هذا الاختراق إلى استغلال هؤلاء الحركيين لقوانين حرية الخطابة والنشر التي توفرها بريطانيا لمواطنيها.

&

هنا يبرز السؤال المهم. متى يتم تقدير خطورة هذه الحرية على الأمن الوطني؟ متى ترى سلطات الأمن البريطانية أن هذا المتحدث تجاوز الخطوط الحمراء؟ وما رأي المحاكم والقضاة هناك حتى بعد استدعائه؟

&

بريطانيا كما نعلم سبق أن آوت العديد من مثيري الجدل من الحركيين الإسلاميين وبعض المعارضين لأنظمة بلدانهم. آخر هؤلاء كان عمر محمود عثمان المعروف بـ«أبو قتادة» الذي تم تسليمه بعد طول انتظار إلى الأردن قبل عام تقريباً. فهل يجوز القول وبعد انتشار هذا العدد من المؤيدين للجماعات الإرهابية، أن لندن وفي مناهضتها «المفترضة» للإرهاب تأخرت كثيراً في مواجهتها وحسمها عند تعاملها مع المشتبه بهم؟ لا يوجد لدي شك في هذا القول إطلاقاً، وها هي تجني «ثمار» تلك السياسة المريبة الغامضة.

&

في السعودية كما نعلم لا يوجد ذلك المستوى من الحرية في الخطابة والنشر كما هي الحال في بريطانيا، بل على العكس تماماً، خصوصاً بعد صدور تلك الأوامر التي جرّمت المنظمات والأحزاب وحرمت التعاطف معها، غير أن ذلك لا يعني على الإطلاق غياب المحرضين، ففضلاً عن التطبيق الباهت لتلك الأنظمة حتى اليوم، فإن في المملكة وبعض البلاد العربية تأخذ التحريض شكلاً مختلفاً متلوناً بجميع ألوان الطيف. نعم لدينا محرضون، لكنهم لا يجاهرون بالولاء لداعش أو القاعدة أو النصرة بالاسم وهم بالمناسبة يجاهرون في الولاء لجماعة الإخوان المسلمين، عوضاً عن ذلك يتصيدون ما يقع من أحداث ويتم تجييرها لمصلحة الجهاد المزعوم. فمثلاً لا يمكن لهؤلاء أن يفوتوا أي حادثة تفجير في العراق إلا ويتحدثون عنها ويتباكون على ضحاياها بعبارات ملتهبة تدفع بالشباب إلى تبني فكرة الثأر. أحداث غزة هي الأخرى تحولت إلى أنهر وبحار ومحيطات من دعوات النفرة والجهاد والحديث عن ذلك يأتي ملتوياً وماكراً بخبث هائل. لدينا في المملكة حيلة قديمة فاحت روائحها العفنة، ومع ذلك لم نتحرك جدياً للتصدي لها. إنها حيلة إيصال الفكرة عبر «الدعاء». المتحدث الحركي يلجأ للدعاء إلى الله بانتقائية فاضحة وتفاصيل دقيقة كما لو كان يلقي بياناً حركياً تحريضياً مفصلاً. اختيار مفردات الدعاء والجهات المستهدفة، سواء كان الدعاء بالهلاك أو بالنصر يوضح في الحقيقة موقف ذلك المتحدث بكل جلاء. المتحدث في النهاية مع تنوع أشكال وألوان الدعاء والابتهال نجح في إيصال رسالته من دون أن يلقي خطاباً أو بياناً ومن دون أن يشعر بالخوف من مخالفة النظام.

&

من وسائل الترويج للانضمام إلى تلك الجماعات أيضاً مواقع التواصل الاجتماعي وموقع يوتيوب وآنستغرام التي تنقل التصوير السينمائي بالصوت والحركة، ويستطيع أي مستخدم للشبكة أن يضع ما يشاء ويروج له من مواقع أخرى. الغريب أن هذه المواقع في الغالب تابعة لمؤسسات أميركية تتخذ من وادي السيليكون قرب سان فرانسيسكو مقار لها. هنا يتبادر إلى الذهن العديد من الأسئلة المهمة. جميعنا يعلم بالطبع أن «القاعدة» محارب ومطارد في كل مكان بواسطة الولايات المتحدة. اليوم انضم «داعش» و«النصرة»، خصوصاً بعد فظائع داعش شمال العراق وقتل الصحافي الأميركي جيمس فولي في سورية على يد داعشي من بريطانيا، وتم نشر المقطع البشع عبر اليوتيوب. كيف لا تتدخل إدارات الأمن الأميركية لدى تلك المؤسسات وتمنع نشر كل المواد التي تروج لتلك المنظمات الإرهابية؟ هل يصعب عليهم ذلك وهم من قام بالتنصت على مئات الملايين من المكالمات الهاتفية في أعقاب عملية ١١ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠١؟ وهل يصعب ذلك على مالكي هذه المؤسسات وهم من يراقب ويمنع نشر الصور الإباحية والمتاجرة بصور القاصرين بمقتضى القوانين؟ أم أن الموضوع هنا يخضع فقط لكسب أكبر عدد من المتصفحين، ما يرفع من قيمة السهم في البورصات؟ هل ستتحول الرأسمالية المفتوحة إلى رمح يطعن ذات النظام الذي يتبناها؟

&

بل وحتى لدينا في المملكة يطرح البعض تساؤلات مهمة عدة هنا. إلى متى والمملكة تقف بلا قرار في ما يتعلق باستخدام هذه القنوات والوسائط؟ الذي أعرفه أن الصين منعت «تويتر» و«يوتيوب» وربما «فيسبوك». دواعي هذا المنع في الصين هي دواع أمنية محضة. فهل نفكر في المملكة في عمل كهذا حفاظاً على الأمن؟ هناك من يقول إن مشاركة «البعض» في هذه المواقع تساعد أجهزة الأمن في الوصول إلى أوكار الإرهاب. هذا ربما صحيح، لكن يجب أن يخضع للموازين. فهل الفائدة من التوصل إلى الأوكار توازي الفوائد التي تجنيها هذه المنظمات من الانتشار؟ أسئلة حساسة وصعبة وربما لن نعرف الإجابة عليها قبل وقوع الضرر، وعندها سيصبح أي قرار يتم اتخاذه متأخراً جداً.

&

أختتم بالتذكير بأن الذي ساعد في انتشار هذا الفكر منذ بدء بروزه على السطح هو التردد في مواجهته بحزم. في الغرب تم استغلال الحريات وربما تجاهل بعض الحكومات هناك عمداً لأسباب لا نعلم عنها والنتيجة ارتفاع عدد المشاركين من مواطني تلك الدول. في منطقتنا والمملكة تحديداً وعلى رغم النجاحات المبهرة أمنياً، لم ننجح حتى الآن في معاقبة المحرضين كما فعلنا مع المجندين. الأمر والأدهى أننا وإضافة إلى تأخر المحاكمات، لم ننفذ الحكم بعد فيمن تمت إدانتهم أمام القضاء. المناصحة تستمر وعلى رغم فعاليتها، إلا أن عدداً لا يستهان به خرج من السجن متعهداً بعدم العودة، وما هي إلا بضعة أيام ثم نسمع عن انضمامه مجدداً لتلك الأوكار. هل نخشى من إيقاف ومساءلة المئات؟ هل يرعبنا عدد المحرضين الكبير وإن كانوا بنسب تأثير متفاوتة؟ إن كنا نخشى من ذلك، فنحن نرتكب خطأً فادحاً. أمن الوطن أيها السادة هو كل ما نملك، حتى لو وصل عدد المقبوض عليهم مئة ألف.

&

باختصار، العالم حتى الآن يواجه الإرهاب بنوع من الميوعة والتردد والبطء الشديد في كل إجراء. لا أعلم لماذا! وإلى متى! لكنها الحقيقة المزعجة جداً.

&


&