فـــؤاد مطـــر

اهتز المجتمع الدولي للمشهد «الداعشي» المبغوض الذي يمثِّل «داعشيا» يرتدي «الثوب الجهادي الأسود» ويغطي وجهه، وبجانبه صحافي أميركي وقع في الأسر «الداعشي»، وقد ألبسوه ثوب الذين يساقون إلى المذبحة بحكم «الشرع الداعشي»، ثم يستَّل سكينا مسنونة ويقطع رأس الصحافي، مهدِّدا بقطع رؤوس أسرى أميركان وربما أجانب أوروبيين أيضا.


لو كان المذبوح غير أميركي والذابح غير بريطاني لكانت هزة الأسى والاستنكار الشديد ستقتصر على مليار ونصف المليار مسلم صدمهم هذا المشهد الذي يسيء إلى الدين الإسلامي، أما المجتمع الدولي فإنه حصَّن نفسه إزاء أي دم عربي يراق في دول المنطقة العربية بالذات. وكان في ذلك منسجما كل الانسجام مع الذين يشعلون المنطقة احترابات ويستبيحون كرامات الأوطان، ونعني بهؤلاء الجانب الروسي الذي في رقبة حكامه كما في رقبة الحكام في الصين مثل ما في رقاب الأميركان والأوروبيين.. فالجميع يتحملون إثم التسبب في سقوط عشرات الألوف من السوريين والعراقيين والليبيين والفلسطينيين قتلى، ومئات الألوف مشردين يشكِّل جيل الأبناء فيهم مشروع إرهاب بعد عقديْن من الزمن أشد وحشية من الإرهاب «الداعشي». ولو كان الروسي والصيني والأميركي والأوروبي يريدون إنقاذ هذه الألوف المؤلَّفة لاستطاعوا، ولكنهم ضمنا لا يريدون.. وهم لو كانوا يريدون لوجدوا في «المبادرة العربية للسلام»، أنها هي الطريق إلى التهدئة والاستقرار، بل إن هذه المبادرة هي التي كانت ستحول دون هذا الذي يحدث بين فلسطينيي «غزة الحمساوية» وإسرائيل نتنياهو الليكودية.


وبالعودة إلى ما بدأناه وكيف أن المشهد «الداعشي» المبغوض أحدث ما يشبه الهزة القوية في المجتمع الدولي نتيجة أن المذبوح أميركي والذابح بريطاني، نستغرب كيف أن هذه المشاعر التي تفجرت في أوساط ذلك المجتمع لم تهتز لمشاهد بالهول نفسه بثتها الفضائيات العربية من سوريا على مدى أربع سنوات وتواصل هذه الفضائيات بث مشاهد أشد هولا لما يتسبب به العدوان الإسرائيلي للأطفال والنساء وكبار السن في غزة. ولكن الآلة الإعلامية المنحازة في دول الغرب الأميركي - الأوروبي لا تركز على هذه المشاهد، إن لم نقل إنها تتجاهلها، لكنها تشارك أرباب العدوان ما ينشرونه عن أضرار طفيفة تسببت بها الصواريخ «الحمساوية».


في ضوء ذلك يستغرب المرء كيف أن الذين تلوذ بهم «حماس» لا يخصصون ميزانية مليارية لشراء مساحات في وسائل الإعلام الأميركية والأوروبية تنشر فيها أو تبث عبر شاشاتها صور الأطفال الذين قضوا بفعل قصف إسرائيل نتنياهو للبيوت والمدارس ودور الحضانة. كما نستغرب لماذا لا تفعل الجامعة العربية شيئا مشابها. وهذا التعتيم من جانب الآلة الإعلامية - الأوروبية يجعلنا نستحضر الواقعة التي حدثت خلال العدوان الثلاثي على مصر عبد الناصر عام 1956، وهو عدوان أشعل مشاعر الغضب في نفوس أبناء ذلك الجيل.. أما الواقعة التي نستحضرها، فتتلخص في أن الحصار الإعلامي الأجنبي على مصر حال دون إشعار المجتمع الدولي بما فعله العدوان، وهنا اقتحم الساحة السياسي ورجل الأعمال المتألق اللبناني الماروني إميل البستاني، الذي هو عروبي بامتياز وصاحب حضور لافت في أوساط المجتمع السياسي البريطاني. وما فعله هو السفر إلى القاهرة ومنها إلى لندن مصطحبا معه ملفات تتضمن مئات الصور التي تشهد على ضراوة العدوان الثلاثي على مصر، وقام بعرضها على أعضاء في مجلس العموم البريطاني أصدقاء له. وبمجرد عرضها تبدلت مواقف هؤلاء وبدأت الإدانة الشديدة لرئيس الوزراء أنطوني إيدن، ثم كانت نهايته سياسيا.


حملة إعلامية من هذا النوع تتضمن توزيع ألوف «البوسترات» للأطفال القتلى والمشافي التي حالها أسوأ من المسالخ، وصور كبار السن من نساء ورجال هائمين على وجوههم في شوارع أحياء دمرت صواريخ نتنياهو من فيها من البشر، كفيلة بإحداث تبدّل ولو طفيف في الرأي العام الأجنبي، الذي بدوره قد يمارس بعض الضغط الذي يولّد موقفا متفهما يؤدي إلى حلول كفيلة بتبديل الأحوال السيئة إلى أحوال أقل سوءا.


واللافت للانتباه أن الأمم المتحدة ومن خلال تصريحات أمينها العام بان كي مون تنشط في سبيل استصدار قرار دولي لوقف النزاعات في العالم، وهو سعي طيب في حال الالتزام به. لكن التساؤل في هذا الشأن هو: من أين تكون البداية؟ والجواب عن ذلك هو وضع المبادرة العربية للسلام موضع التنفيذ. فعندما تأخذ المبادرة طريقها بترجمة مضمونها إلى واقع، لا يعود أي طرف عربي أو إسلامي ومن خلفه طرف دولي يستعمل الموضوع الفلسطيني ورقة في لعبة المكاسب السياسية. ولا تعود حركة مثل «حماس» تنفرد بممارسة دور يحقق أغراض الغير أكثر مما يحقق هدفها في استعادة وطن مغتصَب، والأهم من ذلك لا تعود ظواهر تثير ممارساتها الاستغراب مثل «داعش» ومن قبلها «حركات جهادية» مريبة تستغل التخبط الحاصل في العلاقات العربية - الإسلامية - الدولية وترتكب من الأفعال الشريرة ما يجعل قضايا الأمتين تتراجع إلى الوراء بدل أن تتقدم بضع خطوات.


بعد أيام تبدأ الدورة الجديدة السنوية العادية للجمعية العامة للأمم المتحدة. ولعل هذا الانعقاد هو المناسبة المثالية لوضع الأزمات التي يشكو منها المجتمعان العربي والدولي في متناول المناقشة الجدية من على منبر المنظمة الدولية ووراء كواليس قاعاتها. وسيتبارى المشاركون؛ حكاما أو من يمثل الدول الأعضاء، في الكلام عن إرهاب «داعش» وبما يسر الخاطر الأوبامي الذي خاب الظن في إدارته، وبالتالي استطاع ذبَّاح بريطاني ليس فقط نحر أحد أحفاد العم سام الصحافي المغلوب على أمره، وإنما اعتبار تلك الإدارة الأوبامية، نتيجة الإغراق في التردد والإكثار من الوعود التي لا يفي رئيسها بها والرهانات غير البعيدة النظر على قوى تؤمن بالعنف وسيلة للحكم على نحو ما حدث في مصر وجاراتها، لم تعد بموجب التصنيف السائد الدولة الأعظم.. إلى أن يحدث العكس في ما بقي من الولاية الثانية للرئيس أوباما.


وهذه المرة هنالك حالة تختلف عن حالات سبقت.. هنالك ما يشبه الاقتناع بأن الاستقرار العالمي واستقرار مصالح الدول الكبرى، وبالذات مصالح أميركا والدول الأوروبية، في المنطقة بات، كما يقول الجالسون على القمة في معظم دول العالم، على كف «داعش». ويكفي قراءة ما بين سطور تصريحات أوباما نفسه وآخرين للتأكد من أن «داعش» حققت وحدة الخوف العربية - الدولية كما لم تتحقق بهذا الوضوح من قبل.


وما دام كل صاحب قرار متخوفا من الذي قد يحدث في ضوء ما حدث ولم يأت التصرف حياله على النحو المسؤول، فإن المجموعة العربية مطالَبة بطرح «مبادرة السلام العربية» من على المنبر الدولي وبصيغة مشروع قرار يتم التصويت عليه وتثبيته بوصفه وثيقة دولية من شأن تنفيذها وضع المنطقة على طريق الأمان وحمل «الداعشيين» على الانصراف من المشهد الذي تلطخت مساحات منه بالدم والكلام السيئ. وبذلك تنتهي عروض نحر الرقاب وتنوّع الناحرين من «داعش» إلى «حماس» وغيرهما، ويقضي الله بإنهاء أمر كان سيشعل حرائق لا سبيل إلى محاصرة نيرانها باستمرار تردد الإدارة الأميركية وملعوب «الفيتو» الروسي - الصيني. والله الهادي إلى سواء السبيل واستبدال لغة العقل بأسلوب الغرائز والتحديات.