رضوان السيد

لا يفوق احتفالات «حماس» بالانتصار على إسرائيل، غير احتفالات «حزب الله» بالنصر الإلهي في عام 2006. والمعروف وقتها أنّ نصرالله بلغ بانتصاره الذروة عندما احتلّ بيروت عام 2008. لكن «حماس» تفوَّقت على «حزب الله» في أن احتلالها لقطاع غزة وطرْدها لـ«فتح» منه عام 2007 جاء متقدماً على شنّها حرباً على إسرائيل. وبالطبع، وفي الحالتين، ما كان السبب إلا أن «الخونة والمتآمرين» أرادوا منع نصرالله وهنية من تحرير لبنان وفلسطين بالكامل!


وعلى أي حال، وبعيداً عن السخرية التي لا يتحملها الموقف المأساوي، تتكاثر الأسئلة الآن بعد وقف النار بحسب المشروع المصري وتعديلاته، وهي تعديلات تتنافس على ادعاء القيام بها كل من «حماس» وإسرائيل!

انتصار «حماس» مثل انتصار «حزب الله»، ومثل الانتصارات في سائر الحروب العربية الإسرائيلية (باستثناء حرب 1973)، له في نظرهم ثلاثة مظاهر: أن المقاومة صمدت، فما استطاع الإسرائيليون هزيمتها أو إرغامها على قبول وقف إطلاق النار، وأنّ الخسائر الكبيرة التي نزلت بالمواطنين دليل على وحشية العدو وعلى تجاوُزه كل الاعتبارات والمعايير الدولية والإنسانية. فلدى «حماس» (بحسب وجهة نظرها) تفوق أخلاقي وليس قتاليا فقط في الصراع مع العدو، وأنّ هذا الانتصار هو المقدمة لتحرير فلسطين وعاصمتها القدس! وبالطبع فإن هذا المنطق العلني للتبرير والتغطية، ما كان يسري في قاعات المفاوضات. بدليل أن «حماس» وافقت بشروط الحد الأدنى، وهي: وقف إطلاق النار، وفتح المعابر مع إسرائيل، وتمكين صيادي الأسماك من التحرك على مدى ستة أميال يمكن أن تبلغ 12 ميلا بحرياً. وثمن هذه الموافقة وقف للنار غير محدد بزمان. لكن الأطراف ستلتقي بالقاهرة ولمدة شهر لحل المشكلات الأخرى مثل الميناء والمرفأ، واتفاقيات المعابر، والضرائب والرسوم، ونزع السلاح، وآليات العلاقة بين «حماس» و«فتح» ومصر وإسرائيل والمجتمع الدولي.

كل هذا ظاهر ومأخوذ بالاعتبار. فما كان بوُسع «حماس» أن لا تُظهر حماساً بالنصر رغم سقوط 2140 قتيلا، واثني عشر ألف جريح، وخراب العمران وتهجير السكان. فالكلفة باهظة، لكن النصر كبير بحيث ترجح الأرباح على الخسائر، ويبدو المسار النضالي (الجهادي) في حالة سلامة وتقدم. وهذه عادة تتبعها كل الحركات النضالية اليسارية واليمينية والقومية والإسلامية. وهذا هو السلوك النموذجي لـ«حزب الله». وهو نهج موروث من زمن الحركات القومية والماركسية اللينينية، وهدفه إخفاء العجز والقصور والأخطاء الكبيرة والصغيرة.

ليس المقصود من هذا كله إثارة السخرية من «حماس» أو السُخط عليها. إنما من حق الشعب الفلسطيني والشعوب العربية، وكل الساعين للعدالة والسلام أن يُسائلوا الحكومة الصهيونية، ويُسائلوا «حماس» بشأن ما كان ولماذا، وما سوف يكون. ولأننا لسنا في موقع من يستطيع مساءلة إسرائيل على جرائمها، وأفظعها الاحتلال والاستيطان وقتل الناس، فعلينا لكي تبقى لنا عقول وأفهام وضمائر أن نسأل «حماس» لماذا كانت هذه الحرب. إسرائيل تقول إنها شنّت الحرب ثأراً لمقتل ثلاثة إسرائيليين على أيدي عناصر من «حماس». وحماس مرةً تُثبت ومرةً تُنكر، إنما حتى لو كان إنكارها صحيحاً فإن المسؤولية عن استمرار الحرب تظل واقعةً عليها، لأن إسرائيل وافقت على طلب مصر وقْفَ إطلاق النار منذ الأسبوع الأول، بينما «حماس» لم تُوافق! وكانت حجتها أنها تريد فك الحصار وفتح المعابر والمرفأ والميناء وإعادة الإعمار.. إلخ. وبعد خمسين يوماً، ودمار رُبع غزة، ومقتل وجرح الآلاف، توافق «حماس» على أقلّ مما وافقت عليه عام 2012، وهي الاتفاقية التي تعتز بها لأنها جرت بينها وبين إسرائيل أيام محمد مرسي، «الرئيس المؤمن»؛ لكنْ على غير طريقة الرئيس السادات!

ما كانت الحرب إذن عدواناً إسرائيلياً هكذا مثل سائر «العدوانات» كما يقال. بل كانت هدفاً من جانب «حماس» سعت إليه بإعدام الإسرائيليين الثلاثة، وعبر مسائل وإشكالات أُخرى. والواقع أنه كانت هناك مصلحتان تلاقتا في هذه الحرب وعليها: مصلحة بعض الدول الإقليمية التي سلمت بزوال سلطة «الإخوان المسلمين» في مصر وبقاع عربية أُخرى. وكانت إثارة «حماس» سبيلا لإزعاج مصر في اعتقادهم، ولاستعادة «الإخوان» سمعتهم كجماعة جهاد واستشهاد في وجه إسرائيل. وإيران التي أزعجها ذهاب «حماس» إلى غيرها، ما قطعت الصلة مع قيادتها العسكرية في غزة. وعندما وقعت الواقعة في العراق هاج سليماني وماج، وأثار الطائفيات هناك، وحاول احتلال حلب السورية، وأثار الحوثيين في اليمن، وصنع حرباً على إسرائيل أو هكذا ادّعى، لأن آخرين نافسوه في ذلك! وما كانت استعادة سُمعة المقاومة ولا سُمعة «الإخوان» وأدوارهم تستحق أن يُبذل فيها قتيل واحد. ليس لأننا ما عدنا بحاجة للإخوانيات وحسْب، بل ولأننا لم نعد بحاجة إلى «مقاومة» كهذه أيضاً. فالجهاديون والسياسيون من الإسلاميين جنوا على أمتنا جنايات لا تُوصَفُ، وأسهموا من حيث أرادوا أم لم يريدوا، إلى جانب إسرائيل وإيران وتركيا وروسيا، في صنع الخراب الذي يسود شرق البحر المتوسط وجنوبه!

ومع ذلك فهناك مستقبل آخر يمكن تصوره، وهو الذي يريده السوادُ الأعظَم من الشعب الفلسطيني. والعقبة الأولى أمام ذاك المستقبل بالطبع هي العدو الإسرائيلي. بيد أن هناك تعاطُفاً عالمياً كبيراً مع الشعب الفلسطيني، ومع سلمية السلطة الفلسطينية، ولو بالدعوة إلى الاستقلال من طرف واحد، وبمساعدة دولية. وهذا مسار سواء نجح أو لم ينجح لا يخالف مبدئياً عقائديات «حماس» العظيمة (!). فلماذا لا تدخل وتجرّب، فتصون الدماء، ويعتاد الشعب الفلسطيني على العيش تحت الأضواء بدلا من حياة الأنفاق والتهريب والفساد الذاهبة نتاجه إلى أيدي مسؤولي «حماس»!

إن العرب والعالم الآن يهمهم أول ما يهمهم إعادة إعمار غزة. وهم يريدون (وليس الإسرائيليين فقط) أن لا تتجدد الحرب، وأن يحيا أطفال فلسطين. ولا طريقة لذلك إلا أن تنتهي إدارة «حماس» في غزة، وتقوم إدارة توافقية على رأسها الحكومة الفلسطينية القائمة. ما حكمت الحكومة الفلسطينية بعد، ولا تغيرت الأمور في غزة. ثم إن الانتظام في الحياة الوطنية الفلسطينية يؤدي إلى انتظام في العلاقات مع الدول العربية وبخاصة مع مصر. ليس ممكناً في فلسطين، مقاومة وغير مقاومة، البقاء على مسافة واحدة من مصر وإيران وتركيا. ولا مصلحة لأحد في ذلك. وإذا كان لابد من قبول المساعدة من جهة؛ فيبقى أنه ضروري عدم التحول إلى تابع في الحرب والسلم!

كانت الحرب على غزة قاسيةً جداً. وقد أظهر الفلسطينيون شجاعةً وتضحيات، كما يفعلون منذ عام 1936. والأمر يتطلب الآن إلى جانب الشجاعة الأمانة والنزاهة والمسؤولية وإيقاف شلال الدم: فهل تصل «حماس» إلى مستوى ذلك؟
&