بدر العامر

جل علماء العالم الإسلامي كانوا ينظرون إلى دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب على أنها دعوة تجديدية وإصلاحية تستهدف ما علق بالاعتقاد من بدع ومحدثات وخرافات، ولذا كانت الحركة ملهمة لكثير من الحركات الإصلاحية في العالم الإسلامي

&


موضوع ربط السلفية بالإرهاب ليس موضوعاً جديداً، إنما اشتد النقاش حوله بعنف وكثافة بعد أحداث 9/11 وما تلا ذلك من أحداث وخلع بعض الجماعات المرتبطة بفكر القاعدة اسم "السلفية الجهادية" على نفسها لتصور للناس أرضيتها السلفية في العلم والحركة.


وهذا الموضوع ليس غائباً كذلك عن فضاء النت، فهو محط سجال عريض بين السلفيين وخصومهم، وهو موضوع جدل في مواقع التواصل الاجتماعي، إلا أن تغريدة الشيخ عادل الكلباني دفعت بالنقاش بشكل ملفت وهي قوله بإن: "داعش نبتة سلفية"، وبظني أن الشيخ الكلباني زلق في هذه التغريدة ولم يستطع أن يستقيم واقفاً، وحين قرأت تغريدته علمت يقيناً أنه يتحدث عن أناس في ذهنه يسميهم بالسلفية، وكان يظن أن مقال الأخ الكريم الأستاذ منصور الهجلة، هو طوق النجاة حين أثنى على المقال إلا أنه كذلك زلق مرة أخرى لأنه لم يتنبه إلى أن الأستاذ منصور لم يتحدث عن أولئك الذين في ذهن الشيخ عادل لأنه تحدث عن "السلفية النجدية" وأن الصلة تتعلق بـ"بنية الفكر السلفي النجدي الوهابي" وليس عن سلوك وأفكار فئة تعبر عن فهمها للسلفية، ثم نقض ذلك حين كتب عن الموضوع في جريدة الرياض، تكلم بخلاف مقصد الهجلة وبين أن السلفية في ذهنه تنصرف لأناس حصل بينه وبينهم خلاف وملاحاة، وقد أسماهم في مقاله "أدعياء السلفية"، وبين هذا وبين تغريدته مفاوز لمن تأمل وتفكر.


هذه توطئة سريعة للموضوع الأهم.


داعش والسلفية الإصلاحية، ما الفرق؟


لابد أن نقرر أن ثمة فرقا جوهريا بين دعوة "تجديد ديني" تقوم في الأساس على "فكرة محددة" تتعلق بجانب عقدي، وهذا ما قامت عليه دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، فهي قامت بناء على مقتضيات الواقع والجانب السياسي جاء تبعاً لا قصداً وهذا أمر ألجأ إليه الشيخ، فهو قد جاء نتيجة صراع مع الخصوم حتى صرح بأن ما دعاه للقتال هو اضطرار الناس ومقاتلتهم له أو من باب الدفع والمعاملة بالمثل، فقد قال رحمه الله: (فهذا هو الذي أوجب الاختلاف بيننا وبين الناس حتى آل بهم الأمر إلى أن كفرونا وقاتلونا واستحلوا دماءنا وأموالنا)، وقال: (وأما القتال فلم نقاتل أحداً إلا دون النفس والحرمة وهم الذين أتونا في ديارنا ولا أبقوا ممكنا).


ومما يؤكد "إصلاحية الدعوة"، أن مقررات الشيخ في كتبه ورسائله تتعلق بجانب "التوحيد" و"العقيدة" وفيها بذل جهده الدعوي وطلبه للعلم وارتحاله للديار، حيث استفاد مقرراته من علماء المذاهب في الحجاز والعراق والأحساء ونجد وغيرها، وأخذ منهم أصول الدعوة لتنقية التوحيد وإخلاص العبادة لله، وهذا ما بدأ به وسار عليه ونظر له وكتب وألف وناظر ورد وحورب وابتلي وطرد وحاول خصومه قتله وتآلبوا على قتاله.


أما القاعدة وداعش فهي "حركة سياسية" ذات صبغة دينية، فالهدف المرتسم لها يتمحور حول هدف "الدولة الافتراضية" الذهنية التي هي نابعة من فكرة "الخلافة" التي تنطلق منها جل الحركات السياسية الإسلامية وخاصة جماعة الإخوان المسلمين، وفكرة "الحاكمية" التي بدأها المودودي وأذكاها سيد قطب وحملتها الجماعات الإسلامية، وهذه الفكرة غائبة عن حركة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، ولذلك كانت الدولة السعودية الأولى ذات شق سياسي ممثلاً بمحمد بن سعود الذي كان حاكماً بالفعل قبل الدعوة وتوسع بحكم تمدد الحركة وقبول الناس ودخولهم في بيعته. وشق ديني كان بعيداً عن الطمع السياسي وكانت علاقته بالسياسي علاقة نصرة وتأييد.
ولذلك تجد أن مقررات الحركات السياسية الإسلامية تقوم على التأصيل للهدف السياسي واستخدمت في سبيل ذلك مناهج مختلة كما سيأتي بيانه.


ومما يؤكد هذا الفرق الجوهري بين الحركتين مواقف العلماء من كل منهما في زمانهما، فجل علماء العالم الإسلامي كانوا ينظرون إلى دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب على أنها دعوة تجديدية وإصلاحية تستهدف ما علق بالاعتقاد من بدع ومحدثات وخرافات بغض النظر عن الانتقادات التي تعترض الدعوة وهو أمر طبيعي، ولذا كانت الحركة ملهمة لكثير من الحركات الإصلاحية في العالم الإسلامي، والتي جاءت بعدها والمساهمة في نقلة كثير من العلماء من الكلامية إلى السلفية كالشيخ رشيد رضا وغيره، بل حتى العقلانيين العرب كانوا ينظرون لها بهذا المنظار، ومن أمثلة هؤلاء طه حسين المفكر العقلاني العربي الذي قال عن دعوة الشيخ: "إن هذا المذهب الجديد قديم معنى، والواقع أنه جديد بالنسبة إلى المعاصرين، ولكنه قديم في حقيقة الأمر، لأنه ليس إلا الدعوة القوية إلى الإسلام الخالص النقي المطهر من شوائب الشرك والوثنية. هو الدعوة إلى الإسلام، كما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم خالصاً لله، ملغياً كل واسطة بين الله وبين الناس، هو إحياء للإسلام العربي وتطهير له، مما أصابه من نتائج الجهل، ومن نتائج الاختلاط بغير العرب، فقد أنكر محمد بن عبد الوهاب على أهل نجد، ما كانوا قد عادوا إليه من جاهلية في العقيدة والسيرة". يتبع بإذن الله.
&