محمد المزيني

جهد صناع السينما الهوليوديون ما استطاعوا من أجل تقليم أظفار الرعب والوساوس وكل أمراض جنودهم النفسية التي جرّتها عليهم ويلات تدخلهم السافر في فيتنام، وستر عورة هزيمتهم الماحقة بحفنة أفلام، تظهر الرجل العسكري السوبرمان وهو يخترق حواجز دول محصنة، ويبيد فيها من يشاء؛ كي يخلِّص رجلاً واحداً من أيدي البرابرة والهمج المتأبدين.

&

وفي الواقع، لم نرَ هذا السوبرمان المجالد الشرس، ذا الجسد الذي لا تستطيع رسمه بما يكفي سوى نحاتي العصور اليونانية، فيأتي على طريقة مخرجي أفلام السينما ليخلِّص المصوّر الصحافي الأميركي جيمس فولي من موت محتوم ينتظره على أيدي «الداعشيين»، لكن هذا لم يمنع أوباما من التصريح قائلاً: «إن الولايات المتحدة ستتابع اتخاذ إجراءات مباشرة عند الضرورة لحماية مواطنيها وأراضيها»، وقد صدق في الأخيرة، إن كان يقصد بأن أربيل أحد الولايات الأميركية، فباشر العمل فوراً لردع «داعش»، وإبعادها من مرفق حيوي وعن حدود أربيل بنجاح، بينما لم ينظر بعين الرعاية الأبوية الحانية للأبرياء الذين يقتلون يومياً على أيدي كل الفصائل المتناحرة، بدءاً من النظام السوري، وانتهاءً بما يسمى تنظيم الخلافة الإسلامية.

&

يبدو أن ثمة ابتزازاً أميركياً لشعوب الشرق الوسط، لإخضاعها عنوةً من داخلها، وعبر الجماعات المتطرفة على طريقة (بيدك لا بيد عمر)، لذلك تغض الطرف عن كل العمليات الإرهابية، وتلحق بنا المسؤولية الكاملة عن دعم هذه الجماعات.

&

نحن لا نقلل من قدرات الجيش الأميركي المدرب بشكل ممتاز بتجهيزاته التقنية العالية، والآليات الثقيلة، الجيش الذي استطاع عقب مأساته الفيتنامية أن ينتصر على ما كان يعرف برابع أقوى جيش في العالم (الجيش العراقي)، ويسقط من الجو نظام معمر القذافي، ثم يقف حائراً ومتردداً داخل مكعبات اللعبة في التدخل المباشر لوقف نزف الدم العربي، تحت ادعاء فج، يختصره تصريح أوباما قائلاً: «إن الجواب ليس في إرسال ونشر أعداد كبيرة من القوات بما يثقل على العسكريين، وهذا ما يدفعنا إلى احتلال بلدان فترة طويلة ونصل إلى تغذية التطرف» لم يكن هذا العمق الاستراتيجي في الرؤية الأميركية التي عبّر عنها أوباما، نفسها تلك التي كان يعبِّر عنها بوش من خلال مشروعه الشرق الوسط الكبير، ويعبِّر عنها اليوم المحافظون الجدد من خلال مخططهم الكبير، الذي يسعى بشكل أساسي لاستخدام القوة العسكرية الأميركية لإعادة تشكيل جغرافية سياسية في الشرق الأوسط بما يخدم مصالح إسرائيل وحلفائها، قد يجمع بينها -استنتاجاً- خطة تكتيكية لتفريغ الشرق الأوسط من حمولته الموصومة بالإرهاب داخل المناطق العربية المشتعلة.

&

اليوم، وإزاء ما يحدث في العراق وسورية نحن مشدوهون أو لنقل مصدومون، ونعترف أننا نصل إلى حافات الرعب، ونحن نشاهد العمليات العسكرية الناجحة التي ينفذها (الداعشيون)، الذين (قبلها) لم يكن لهم خبرة كافية باستخدام الأسلحة ولا الكفاءة التي تمكنهم من خوض معارك شرسة على أراض مفتوحة، ويحققون خلالها انتصارات، وإن رأيناها وقتية، فإنها قد حُسبت لهم انتصارا، وتنظيم «داعش» الذي تنامى وتصاعدتْ أسهمه بين المتطرفين، ومن لديهم جاهزية للموت تحت مظلته الجهادية، أغرتهم هذه الانتصارات، وبدا الحلم الأممي الكبير بقيام دولة الخلافة الإسلامية تحت الرايات السود يلاقي هوى أفئدة كثير من شباب الأمة المتعطشة للانعتاق من أزماتهم، حتى بات لدى كثير منهم استعداد للموت في سبيله.

&

لن نستطيع -ولو جئنا بكل التحليلات والقراءات- أن نعرف كيف تشكلت «داعش» في ظل هذه الظروف العصيبة مهما تعددت الرؤى واختلفت الآراء فستظل قابعة في تحت ثقل المحاولات الناقصة، أو حيز الاستعراض اللذين لن يوصلانا إلى معرفة حقيقية وجازمة.

&

الأميركيون يستطيعون حماية مصالحهم ومواطنيهم بالطريقة التي عبّر عنها أوباما بكل الأسلحة الدقيقة والتخطيط المتقن من الجو أو من الأرض متى أرادوا، أما نحن المتورطون بهذه اللعبة بشكل أو بآخر فيقع علينا العبء الأكبر في البحث عن حماية أنفسنا وبلادنا على أرض مسطحة ومكشوفة، تتماسّ مع المناطق الملتهبة، ونفكر جيداً ونخطط بطريقة سريعة لتحصين حدودنا وأبنائنا من غواية الجهاد، الذي يلامس شغاف قلوبهم المعبأة سلفاً بحبه.

&

ما لم نقم بذلك فسنكتشف كل يوم خلايا إرهابية «داعشية» وغير «داعشية» مستيقظة ونائمة تتحرى الفرص المناسبة لخوض معاركها المقدسة، ومعها ستتنامى مخاوفنا من انفجار صمام الأمان مرة أخرى، وسنعود إلى مربع التفجيرات الإرهابية التي أرعبت الآمنين قبل عقدين من الزمان، تلك التي كنا قد استأنسنا قليلاً بطي صفحاتها القذرة.

&

أمام كل هذه الأخلاط الفاسدة يجب علينا أن نبحث عن الحقائق كاملة ومن يدير أدوات اللعبة ومن يشكلها ويجرنا معها ليضعنا تحت سيف التهديدات بطريقة ابتزازية مفرطة بالاستهتار.

&

فإلى متى سنظل عاجزين تماماً عن تتبع منابع انفجار الثورات وصيرورة الأحداث؟ فلا أحد يستطيع استجلاء ما يحدث في عالمنا العربي بشكل واضح ودقيق مبني على المعلومات والحقائق والأرقام، مكتفين بفرك أيادينا تحسراً وندماً على مباركتنا بشكل متكرر لألوية الجهاد المزعوم، هذا الذي جر معه كل الأخلاط العفنة، وانحدرت الكرة الملتهبة لتصل إلى حدودنا الآمنة، هل سنبيت أبداً متفرجين على كل الدخلاء ليقرروا مصائرنا نيابة عنا تحت مبررات واهية؟ أليس من الأجدر بمراكزنا البحثية، ومؤسساتنا العلمية التي تغص بها دولنا وتتبجح بوجودها ليل نهار وتمنح الشهادات والجوائز على دراسات لا قيمة لها، أن تتحمل مسؤوليتها كاملة عما يحدث على الأرض؟ باستجلاء الحقائق الغائبة عن أذهاننا، وكشف الأيدي الخفية التي تلعب بمصائرنا لتبقينا بين أصابعها كالدمى تحركها كيما تشاء، وتتحدث نيابة عنا بما تريد. ما لم يحدث هذا فسنظل متخبطين متصارعين تائهين في لجج الجهل ودياجير الظلام، وستتخطّفنا أيدي من لا يرقب فينا إلاًّ ولا ذمةً.

&


&