محمد كريشان

«ربنا يُـلحقك به ويُضرب عنقك أنت الآخر!!»… «تدافع عن أمريكي أيها (…) وتتناسى المآسي التي سببها الأمريكيون في فلسطين والعراق وأفغانستان، إلى الجحيم معه يا (…)!!»… «هذا جاسوس وعميل … إلى جهنم وبئس المصير!!». هذه عينة من بعض الردود على مواقع التواصل الإجتماعي تعليقا على ذبح تنظيم «الدولة الإسلامية» للصحافي الأمريكي جيمس فولي في سوريا مؤخرا. يوجه هذا الكلام إلى كل من عبـّــر عن امتعاضه وإدانته لهذا الأسلوب الهمجي في تصفية حساب مع شخص لا ناقة له ولا جمل في سياسات بلاده لا في سوريا ولا في غيرها. أما إذا قلت أن هذا يتنافى مع الإسلام دين الرحمة والتآخي فستتلقى سيلا لا أول له ولا آخر من الشتائم.


بالطبع توجد آراء أخرى مختلفة تماما لكنها تبدو وجلة وفاترة في الغالب مقابل هذا النوع المرعب من الآراء الأكثر انتشارا والأكثر توثبا للإنقضاض، وبكثافة لافتة، على كل من يعبر عن وجهة نظر مـُــدينة لما تشهده المنطقة من تطرف مخيف وغير مسبوق. الأخطر أن هذه الآراء المعبر عنها لا تكتفي بالتصلب في مواقفها، وهذا من حقها في نهاية المطاف، بل تمارس على مخالفيها ترهيبا واضحا في محاولة لثنيهم مستقبلا عن التعبير عن أي رأي يخالف ما يرونه الحقيقة المطلقة السرمدية. بعض أصحاب هذه الآراء يضعون صور راية «الدولة الإسلامية» السوداء إلى جانب أسمائهم المستعارة لكن البعض الآخر يتبنى نفس الطروحات التخوينية والتكفيرية والشتائم التخويفية بكامل أسمائهم وصورهم الشخصية، إذا صدقنا فعلا أنها حقيقية.


لا أحد يستطيع أن يجزم أن عناصر «التدخل السريع» هؤلاء في مواقع «تويتر» و»فيسبوك» هم التعبير الصادق عن الخط المهيمن في أوساط الرأي العام العربي حاليا لكن الأكيد أنهم الأعلى صوتا والأكثر جرأة، وحتى وقاحة، في النيل من خصومهم لردعهم عن مواصلة التصدي لهم. هذا التصدي لا يتعدى الآن مجرد كتابة سطرين أو ثلاثة ليس إلا وعلى أرضية غير معادية للدين الإسلامي الحنيف لكنها تمتلك فهما مغايرا له ليس أكثر. مقابل هؤلاء، يبدو أصحاب «الضفة الأخرى» أميلَ تدريجيا إلى إيثار السلامة وتجنب الإصطدام بأمثال هؤلاء والاكتفاء بمحاولة تغيير ما يرونه منكرا بالقلب فقط، من باب أضعف الإيمان.


لا أحد بإمكانه أن يعطي على وجه الدقة نسبة هؤلاء مقابل أولئك في مجتمعاتنا العربية لكن المقلق حقا هو احتمال أن تكون النخبة السياسية والإعلامية والثقافية في بلادنا العربية غير واعية أو مقدرة لحجم ما يمكن أن يكون قد تسرب تدريجيا عندنا طوال السنوات الماضية من غلو وتشدد في أوساط واسعة ليس فقط من الطبقة الشعبية بل كذلك الطبقة الوسطى وحتى تلك المرفهة. الخشية أن تكون لهذه النخبة تصوراتها المغلوطة أو المنشودة عن طبيعة مجتمعاتهم دون أن تكون على دراية حقيقة وعلمية بما طرأ على هذه المجتمعات من تغيرات عميقة نتيجة الإحباط المتعدد المستويات والأبعاد.


علماء الاجتماع والباحثون المختصون ومراكز الدراسات هم الأنسب لتشخيص علمي دقيق لاتجاهات الرأي العام لدينا حتى نقف أمام أنفسنا في المرآة لنرى صورتنا على حقيقتها فيفرح بها من يفرح ويندب حظه من يندب. قد يكون حجم التطرف عندنا مبالغا فيه أو مضخما لأغراض شتى، وقد يكون فعلا في اتساع مطرد لما لهذا التطرف من جذور عميقة ممتدة في تنشأتنا وتعليمنا وتاريخنا وزاد من حدته عقود القمع والفساد في الداخل والشعور المتنامي بالظلم والاستهداف المنظم في الخارج.


ما حصل أيضا من انتكاس للآمال العريضة التي بعثها الربيع العربي، وتعثر لعملية الانتقال الديمقراطي في مصر، وتعفن للأوضاع في سوريا وليبيا واليمن مع ازدياد حدة الاصطفافات الطائفية في العراق والمنطقة عموما، واستمرار إسرائيل في عدوانها الدائم على الفلسطينيين ونفاق الدول الغربية الغربية والولايات المتحدة أساسا في دعمها الدائم، وخيبات الفلسطينيين والعرب من أي تسوية منصفة.. . كلها عوامل صبت مزيدا من الزيت على نار تطرف لم يخمد أبدا وإنما كان خطه البياني يصعد وينزل حسب سياق التطورات والأحداث. ثم إن الشعور الدائم، والمرضي أحيانا، بالمظلومية، و»الارتياح» للعب دور الضحية بإلقاء كل المسؤولية على «الآخر» بشكل شبه آلي، والتغني المستمر بماض تليد لا معنى لأي مستقبل دون استعادته، بلا نقد أو مراجعة… كله بعض من أعراض التطرف الذي يتهم به العرب والمسلمون حقا وباطلا.. فهل يمكن أن نفلح في تشخيص منصف وشجاع لأنفسنا وبأنفسنا، حتى وإن كان صادما أو مؤلما، قبل اتساع الخرق على الراتق؟