إياد أبو شقرا

تحت وطأة هجمات «داعش» في العراق، التي أدّت إلى مجازر وتهجير للأقليات و«سبي» غير مسبوق في تاريخ العرب والمسلمين الحديث، اضطر باراك أوباما للتحرّك. وفي سوريا يواصل نظام بشار الأسد معركته من أجل تحصين وضعه في دمشق ولو كان الثمن تقسيم البلاد وتفتيتها واستدراج أقلياتها لفتن دينية ومذهبية. وفي لبنان يستمر تعطيل عملية انتخاب رئيس جديد للجمهورية بهدف «مصادرة» الدولة وتسخيرها لخدمة مصالح الدويلة الطائفية. وفي الأراضي الفلسطينية المحتلة تسير الأمور نحو التأزم بعد «الانتصار» الذي أعلنه سامي أبو زهري في غزة وانتقاد الرئيس محمود عباس بعض مواقف حماس وسياساتها، ومنها الإعدامات بلا محاكم لـ«العملاء» عشية ذلك «الانتصار». أما في اليمن فيستجدي الرئيس عبد ربه منصور هادي موافقة الحوثيين على تخفيف الضغوط على حكمه الانتقالي الهش.. وتطول القائمة حتى وصلت بالأمس إلى الإعلان عن حملات «التشيع» المرعيّة إيرانيا في السودان. القاسم المشترك في كل الحالات المشار إليها مخطط طهران التدخلي والتوسعي في المشرق العربي. بروز «داعش» السريع جاء هديّة لا تقدّر بثمن للمشروع الإيراني الإقليمي المتسارع الخطى، الذي يطرح نفسه الآن - مع عملائه وأجرائه - حليفا لا بديل عنه للمجتمع الدولي، والدول الغربية تحديدا، في الحرب على «الإرهاب التكفيري» - أي السنّي - مجازا.


كلام الرئيس حسن روحاني في الأسبوع الماضي مباشر وبليغ وغاياته صريحةٌ واضحة. إذ قدّم روحاني تصوّرا جديا للتعاون الإيراني مع واشنطن، بالذات، في تسوية أزمات المنطقة من منطلق الحرب على «الإرهاب التكفيري».. في أعقاب العرض «الكاريكاتيري» الذي قدّمه وليد المعلم لمساهمة دمشق في الحرب على إرهاب أسهمت في تصنيعه ورعايته واستثماره.


الفارق بين كاريكاتيرية المعلم وجدية روحاني بديهي. فالنظام السوري أضحى منذ فترة غير قصيرة مجرّد تابع هامشي لمشروع طهران الإقليمي، بدليل اضطراره للاستقواء بالميليشيات الشيعية الإيرانية الإمرة كـ«حزب الله» اللبناني و«كتائب أبو الفضل العباس» و«عصائب أهل الحق» العراقية وغيرها.. لضرب ثورة شعبه. ويتأكد ضمور دوره الإقليمي يوما بعد يوم بعجزه عن الاحتفاظ بسيطرته على مناطق واسعة من سوريا نفسها، وكانت آخر نكساته البعيدة الدلالة فقدانه قاعدة الطبْقة الجوية في محافظة الرقة، وتنامي تمدّد «داعش» شرقا، و«جبهة النصرة» جنوبا باتجاه خط الفصل في الجولان المحتل بمحافظة القنيطرة.


إيران، في المقابل، لاعب من الوزن الثقيل، يجيد التخطيط والتنفيذ والمناورة، ويموّل ويدعم عدة قوى.. متعارضة أحيانا في منطقة واحدة. ولا ينفي إلا مكابر النجاحات الكبرى إقليميا التي حقّقها النظام الإيراني، لا سيما بعد انتخاب روحاني ذي الوجه «المعتدل القابل للتصدير» وتشكيله مع وزير خارجيته محمد جواد ظريف ثنائيا يفهم الغرب ويجيد مخاطبته باللغة التي يستسيغها. وكما بات معروفا، البيت الأبيض التزم فعليا بالانفتاح على إيران. وإذا كان لنا أن نقرأ ما بين سطور عدد من كبريات الصحف والمجلات الأميركية فإن التقارب الأميركي - الإيراني ماضٍ قدما على الرغم من الضيق الذي سبّبه ويسبّبه لحلفاء واشنطن وأصدقائها في الشرق الأوسط. وكان أول الغيث قرار أوباما التصدّي لتقدم «داعش» في العراق.. وهو الذي تجاهل معاناة السوريين لأكثر من ثلاث سنين ونصف السنة، وغضّ الطرف حتى عن استخدام السلاح الكيماوي.. وهو الذي لم يسلّف اللبنانيين إلا كلاما أجوف يثرثره سفيره في بيروت، ديفيد هيل، عن أزمة الحكم في لبنان.. في ظل ابتزاز «حزب الله» المتمثل في استخدام دمية مارونية يتاجر بها، ويقوّلها ما يخجل من قوله، ويتستّر على اسمها مع أن أي لبناني فوق مستوى الغباء المطبق يعرف هويتها وتعطّشها الجنوني إلى أي لقب رئاسي.


نشوء «داعش»، من دون شك، حدث مهم في المنطقة، والتنظيم يشكل خطرا كبيرا على نسيجها الاجتماعي، لكن خطره غير محصور بتهديده الأقليات الدينية والمذهبية. إن قوى مثل «داعش» تهدّد في المقام الأول فكر أهل السنة والجماعة ومصالحهم، حتى وإن كانت لا تهدد وجودهم الجسدي. «داعش» وأمثاله من التنظيمات تهدّد مصالح المسلمين وعلاقاتهم مع المجتمع الدولي كله. ورفض هذه التنظيمات فكرة التعايش مع الآخرين يدمّر أي مستقبل لأجيال المسلمين الشابة التي تطمح لتلقي العلم خارج بلاد المسلمين، والتبادل التجاري، والتلاقح الحضاري والثقافي مع العالم بأسره. إن أول ضحايا ظلامية «داعش» وأمثال «داعش» هم أهل السنة والجماعة، وتجاوزات هذه التنظيمات ستجرّ عواقب وخيمة عليهم، وتبرئ ساحة المتآمرين عليهم وتتستر على جرائمهم. ومن ثم، على أهل السنة والجماعة أن يكونوا الأحرص على الدفاع عن مصالحهم، ومناوأة من يسيء إلى الإسلام والمسلمين بجهله وغلوه وعتوّه. واستطرادا، على كل القوى العربية والإسلامية أن تعي كل أبعاد التحدّي المصيري الراهن، وألا تسيء قراءة المتغيّرات الكبرى من منطلقات ضيّقة. وهنا لا يمكن تجاهل دورَي مصر وتركيا في «موازنة» الطموح الإيراني من ناحية والهروب الإسرائيلي من استحقاقات السلام في المنطقة من ناحية أخرى. إيران تلعب لعبتها بذكاء وهي تسخّر - كما سبقت الإشارة - لاعبين متعارضي الأهواء لخدمة أهدافها، بما فيها بعض جماعات الإسلام السياسي السنّي. وإسرائيل في عهد الليكود لا تمانع في تنامي دور طهران، حتى داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، لأنها تريد فتنتين فلسطينية – فلسطينية وسنّية - شيعية، وهنا تتقاطع مصلحتا طهران وتل أبيب بأمل التوصل إلى صيغة إقليمية برعاية أميركية.
أين مصر وتركيا من هذا التطوّر؟


القيادة التركية، على الرغم من «كاريزميتها» وتفويضها الشعبي المتجدّد، تواصل ممارسة السياسة من منطلق حزبي - عقائدي ضيّق، ومصر الخارجة للتوّ من تجربة حكم «الإخوان» تبدو للبعض وكأنها في سياستها الإقليمية رهينة لتجربتها السيئة محليا، وتنسى علاقات «الإخوان» مع طهران.. وهذا نهج قد يضر بموقع مصر القيادي عربيا وإسلاميا أكثر مما يفيدها.