حسين شبكشي

القصة الحقيقية تظل أكبر بكثير من مجرد فرقة أو تنظيم مارق وإرهابي، يشكل خطرا عظيما على الأمن، ويتمدد ويتوسع وينتشر كما هو حاصل اليوم مع الجماعة الإرهابية المعروفة باسم «داعش»، فـ«داعش» ما هي إلا مشهد واحد ونموذج واحد من مشكلة عظيمة تتعلق بمواجهة الصدام العظيم داخل الفكر الإسلامي نفسه، والذي مكّن خروج هذا الكم الهائل من العنف، معتمدين فيه على تفسيرات ونصوص مقروءة، تنافي سيرة الرسول نفسه صلى الله عليه وسلم، فكيف من الممكن أن يستوي ذلك الأمر العجيب. يتابع العالم بذهول متزايد حجم القوة المتنامية لـ«داعش» وسط محاولات متعددة ومختلفة لمحاولات تفسير هذه الظاهرة، وفك طلاسم أسباب هذه القوة ومن يقف «وراء» دعمها والتخطيط لها، وإعانتها بالمال والعتاد والمعلومة والمخابرات. والنظريات والأطروحات للإجابة عن هذه الأسئلة لها من الخيال الواسع ما لا سقف ولا حد له، وتبقى دوما تدور في حيرة بين الرغبات والحقائق على أرض الواقع، لأن الحقيقة المرة تؤكد أن وجوه تنظيم «داعش» سواء أكان ذلك الأمر في القيادة أو في المقاتلين، هم من دول إسلامية وعربية في المقام الأول، والفكر الذي أنتج «داعش» ساهم من قبل ذلك في إنتاج تنظيم القاعدة الإرهابي، وكذلك أخرج تنظيم الجهاد، وطبعا كان أيضا مسؤولا عن إفراز تنظيم «الشباب» الذي يمارس الإرهاب بأبشع صوره في الصومال وكينيا، ونفس الشيء يقال أيضا عن تنظيم بوكو حرام الموجود في نيجيريا، ويمارس إرهابا غير عادي. والفكر هذا هو الذي أفرز قديما تنظيم التكفير والهجرة، ولكنه أيضا هو الذي أسس لولادة أفكار مدمرة أخرجت تنظيمات إرهابية مثل حزب الله وفيلق أبو العباس وجيش المهدي، حتى ولو كان على المعسكر الآخر والنقيض من المجاميع الإرهابية الأولى المذكورة بحسب الاعتماد المذهبي والطائفي، إلا أن الجميع دون استثناء ينتمون إلى نفس الفكر الإرهابي، فهم يخالفون القاعدة الشرعية الأساسية: «دم المسلم على المسلم حرام»، هذه القاعدة التي تضع حدا فاصلا ما بين الحق والباطل والحلال والحرام، فيما يخص علاقة الجماعات الإرهابية التي تدعي زورا وبهتانا بأنها تتحدث باسم الدين، وتقوم بما تقوم به «بحكم» الدين، وهي في ذلك الأمر أبعد ما تكون عن ذلك. وهذه المسألة تفتح بابا عظيما، وهو كيف من الممكن اعتماد آراء ونصوص وفتاوى تخالف بشكل صريح السنة الفعلية، وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه؟ أو ليس هذا تأولا عظيما على الدين، وادعاء صريحا على دين الرسول عليه الصلاة والسلام؟ ولعل ذلك مكمن الخلل حينما تم إهمال السيرة النبوية الشريفة لصالح مشايخ ودعاة ومدارس فكرية شديدة التطرف، وعظيمة التنطع، لتوصلنا إلى الحال الذي وصلنا إليه اليوم.


إذن لم يشرح المسلمون أساس المشكلة، واستمروا في التعاطي على أساس مذهبي وطائفي دون اللجوء إلى أصل المشكلة.


كان قديما دوما ما يقال إن فقه المهجر، ويقصد به كم الآراء والتشريعات، التي تعطي الحجة والذريعة للعيش بشكل متسامح وسوي مع «الآخر» في بلاد «المخالف» للدين، وتكون هذه الآراء عادة أكثر ليونة وسهولة وسلاسة، لأنها تراعي مقصد الشريعة، ولا تلتزم بجمود النص والقراءة القاصرة للتفسير من دون نظرة أبعد وأشمل وأعمق.


واليوم يعاني المسلمون في الغرب من وصول هذا السرطان الفكري المتشدد إلى بلادهم، وهم في المهجر، ويشاهدون كيف تختطف منابر بعض المساجد هناك بألسنة غليظة وكريهة، تبث أفكارا غريبة وترفض البلاد التي يعيشون فيها، وتطلب من الرواد المسلمين والمساجد الدعاء «عليها» أي على الدول التي يعيشون فيها، وتطلب منهم عدم مصاحبة أي من مواطنيها ولا صداقتهم، وغير ذلك من الفكر المتمرد، الذي لا بد أن يولد كراهية، ومن ثم تعصبا، ومن بعد ذلك عنفا وقتلا ودما، وهو التطور الطبيعي جدا والمنتظر جدا لهذا الفكر المنحرف. واليوم يدرك الغرب تماما أن هناك موجة قادمة إليه في عقر داره، من نتاج الفكر المنحرف الذي أصاب الدول الإسلامية، وها هو ينتشر إلى دول العالم، بحيث أصبح هناك عولمة للإرهاب كما يبدو. ولكن المسؤولية تبقى في الأساس مسؤولية المسلمين، وليس فقط مسؤولية الولايات المتحدة والغرب لمكافحة ما يحدث باسم دينهم، فأهم من انتظار قرارات المحاربة بطائرات الدرون والطائرات المقاتلة والصواريخ على هذه العصابات المجرمة، على المسلمين أخذ القرار الجريء والمطلوب بتطهير بعض كتبهم التراثية مما فيها من أفكار متطرفة، أوصلتهم إلى هذا الحال فهو تلوث فكري لا بد من التخلص منه فورا.