&

&

آمال موسى

&

&تقتضي الصراحة مع الذات الاعتراف بأن التشدد الديني أصبح مشكلة معقدة أكثر من أي وقت مضى. وحتى كيفية التعاطي مع هذه المشكلة، قد باتت تمثل حيرة حقيقية، ليس من السهل تفاديها أو تذليلها من خلال خطة محكمة وواضحة ومتفق عليها.

فنحن أمام انفجار كمي هائل للجماعات المتطرفة على شكل أخطبوطي، يُوحي في الظاهر أننا أمام جماعات مختلفة في آيديولوجياتها ومشاريعها. ولكن في واقع الأمر كل الجماعات المتطرفة دينيا، تشترك في المشروع نفسه والخصائص ذاتها؛ فهي حاملة لفكر متشدد ومتطرف دوغمائي وأصولي. فكر في قطيعة مع الواقع والحاضر وضد التاريخ.

ومن ناحية ثقافية قيمية، فهو يعد فكرا منغلقا ماضويا معاديا للحياة ومظاهرها، لذلك يتوسل العنف والقتل كآليات للوجود.

كما أن التشدد الديني ليس بظاهرة حديثة العهد والأولى من نوعها تاريخيا، بل إنها ظاهرة عرفها التاريخ العربي الإسلامي، إذ كانت في مراحل المخاضات الكبرى وفي لحظات الانتقال من حكم إلى آخر، ومن عهد إلى آخر، تظهر فرقا دينية متشددة، وهو ظهور بالمناسبة يستحق منا انتباها خاصا؛ ذلك أنه يتسلل من شقوق التاريخ ولم يشكل قط محطة تاريخية موضوعية. تظهر هذه الفرق المتشددة عند اللحظات التاريخية الهشة التي تمر بها الأمم والمجتمعات: لحظات الهدم ولحظات بداية بناء جديد، وذلك في إطار القيام بمحاولة لفرض مشروعها، مستغلة ما تعرفه أي حالة انتقال من هشاشة.

ومن ثم، فإن عوامل ظهور الفرق المتشددة متصلة بمظاهر الضعف والتفكك والأزمات، أي أن التطرف ينتعش في ظروف هشة. بل إن مجرد ظهورها في حد ذاته يمثل دليل ضعف متعدد المجالات.

أعتقد أن هذه النقطة على قدر عال من الأهمية، خصوصا أن التاريخ العربي الإسلامي أثبت أنه رغم الظهور المتواتر لفرق التشدد الديني عبر العصور السابقة إلا أن هذه الجماعات لم تنجح في الوصول إلى الحكم وفي قيادة مجتمعاتنا. وهو ما يعني أنها حاملة لمشروع وإن كان مسموما ومؤذيا إلى أبعد الحدود فإنها ظواهر قصيرة النفس والمدى والسقف، لأنها بكل بساطة جماعات ضد الواقع ومجرى التاريخ والحياة والدين نفسه.

طبعا خصوصية السياق العالمي الراهن الذي عاودت فيه فرق التشدد الديني الظهور هو الذي جعل منها جماعات مُعقدة ومعولمة وصادمة جدا؛ ذلك أنها كفرق متطرفة، ظلت تتبنى نفس المشروع رغم تتالي العصور والتقدم الفكري والعلمي الإنسانيين. وهي غير مكترثة بما قطعته الإنسانية من تطور ومسافات متقدمة في فهم الحرية وفي تطبيقاتها وممارساتها وتشريعاتها. لذلك، فهي تبدو نشازا مضاعفا وفوق طاقة الإنسانية جمعاء على الاستيعاب الموضوعي لها.

صحيح أن خطر هذه الجماعات المريضة عالمي وأنها كالطاعون ولكن المجتمعات العربية الإسلامية هي المهددة أكثر في جغرافيتها وفي صورتها وفي كل شيء.

وعندما نلحظ تغلغل تنظيم «داعش» في العراق وسوريا ووجوده في ليبيا أيضا واستقطابه للمجاهدين، فإن الحل لا يبدو لنا في هذه اللحظة فكريا أو ثقافيا في المقام الأول بقدر ما هو عسكري وعاجل جدا.

ويبدو أن أداء جامعة الدول العربية إزاء هذه المشكلة الكبرى ليس في حجم التحدي، خصوصا من ناحية الإيقاع المعتمد في التفاعل مع توغل أقدام المتشددين.

ورغم البيان الأخير الذي استعملت فيه جامعة الدول العربية لهجة صارمة تجاه الجماعات الإرهابية ومساندة الولايات المتحدة في حربها ضد الإرهاب، فإنه حسب اعتقادنا تتطلب خطورة الأوضاع الراهنة في خصوص تمدد مخالب جماعات الموت والعنف تحركا سريعا ومجديا قبل أن تتحول الخريطة الإسلامية كلها كما هو حال العراق وسوريا.

من الخطأ الفادح والكبير، التهوين من خطر هذه الجماعات. فالحرب العاجلة والشرسة ضدهم حاجة وضرورة باعتبار أن الخيار الغالب لدى هذه الجماعات هو تصفية كل من يخالفهم في الدين والمذهب. وكلما تأخرنا في تطويق مشكلة التنظيمات ذات الآلاف من المقاتلين جورا باسم الشريعة، ازدادت الخسائر والدماء المستباحة.

وعندما ننجح في الحل العسكري، ساعتها يأتي دور المعالجة الثقافية والفكرية والاقتصادية أو لتكن على الأقل متوازية مع المعالجة العسكرية.

من الخطأ التحاور مع من اتخذ الجريمة باسم الدين دستورا يسير عليه وطريقة لإظهار قوة الانتساب للإسلام.

من الخطأ التفكير في سبل استيعابهم لأنهم كالسحر الذي ينقلب على الساحر.

ولعل ما بدأ يتكون حاليا من شبه شراكة دولية هدفها محاربة الإرهاب من شأنه أن يُضيق الخناق على هؤلاء الضالين ومعرفة أسرار تنظيم مثل «داعش» ومصادر قوته والجماعات الأخرى التي تحمل في مسمياتها كلمة «الشريعة» وتدعي نصرتها.. لقد توسع الخطر بشكل جعل العالم يحتاج إلى قوى بدلا عن قوة واحدة وإرادات متوحدة عوضا عن دولة مهما كانت قوتها.

إن هناك بالفعل حاجة إلى فك لغز أسباب تطاول هذه الفرق المتشدّدة.

&