&علي سالم
&

الثائر معجب بنفسه إلى درجة النرجسية المرضية، هو يرى دائما أن ما يفعله هو أعظم الأفعال وأن ما يقوله هو أعظم الأقوال، هذا هو بالضبط ما نسميه بالنرجسية. والاسم جاء من أسطورة يونانية قديمة عن أمير شديد الوسامة اسمه نرسيس كان دائم التحديق في سطح البحيرة متأملا في إعجاب ملامح وجهه الجميل مضيعا في ذلك نهاره كله.


وهنا قاطعني أبو طارق رجل المقهى اللطيف: لحظة يا أبو علوة.. أنت تقول ما هو شائع، أما الحقيقة فهي أن هذا الأمير كانت تنبأت له الإلهة «هيرا» بأنه سيموت عندما ينظر في مياه البحيرة ويظهر وجه آخر بجوار وجهه.. هو لا يحدق في مياه البحيرة معجبا بوسامته ولكن لأنه خائف من تلك اللحظة التي يظهر فيها وجه آخر إلى جوار وجهه.. ستكون هذه اللحظة هي لحظة نهايته.. ولأن الأساطير اليونانية تساعدنا إلى حد بعيد في فهم سلوك البشر، لذلك نستطيع أن نقول إن الإعجاب المفرط بالنفس عند الثائر ليس إلا ستارا يداري به خوفه الشديد من ظهور وجه آخر.. تنظيم آخر.. جماعة أخرى.. دولة أخرى.. شيطان أكبر أو أصغر آخر.. إلخ إلخ.
الخوف إذن هو ما يحرك الشخص الثائر أو النظام الثائر ويرسم له كل خطواته. هو يكره الآخرين جميعا لأنه يخشى ظهور أي وجه منهم على سطح مياه البحيرة، لذلك هو يفكر طول الوقت في تصدير الأذى إليهم. وبهذه المناسبة، اللغة تكون أولى ضحايا الثورة، عندك مثلا مصطلح تصدير الثورة، عملية التصدير تتطلب اتفاقا بين طرفين، المصدِّر والمصدَّر إليه، والطرفان يتخذان كل الطرق للعناية بالبضاعة المصدرة وإلا رفضها الطرف الثاني، أين تصدير الثورة من كل ذلك، الاسم الحقيقي الذي يجب أن تعترف به الأنظمة الثائرة لهذه العملية هو تسريب الأذى للآخرين، ويجب أن يكون ذلك واضحا للجميع.. على الأنظمة الثورية والجماعات الثورية أن تقول بوضوح: أيها السادة لدينا الكثير من الأذى أكثر من حاجتنا.. لذلك سنرسله لكم.


بعدها سكت أبو طارق وقال لي: اتفضل اتكلم يا أبو علوة.. هل كلامي عن إعجاب الثائر بنفسه صحيح؟
قلت: يا أبو طارق.. أنت رسمت صورة كئيبة للغاية دفعتني للتصور أنه لا أمل في تغير عقول السادة الذين يحكمون البلاد الثائرة أو يقودون الأنظمة الثائرة.. العقل البشري كبير للغاية ومعقد أشد التعقيد، أنا أعتقد أن بعض الحكام الثوار ستحدث ثورة داخل عقولهم تصنع بهذه العقول ما نسميه في المسرح «لحظة الاستنارة».. أعتقد أن العقل البشري مجهز بدينامو يعمل فجأة فيضيء كل الأماكن المظلمة داخل العقل.
قال أبو طارق: لم يتغير فيك شيء، تؤمن دائما أن هناك لحظات عقل واستنارة وخير ستشمل كل الناس، هذه هي طريقتك في حماية عقلك من الجنون.. لا بأس أنا أهنئك بها.. خلاص يا سيدي، غدا تعلن حماس ترك الحكم للسلطة الفلسطينية الشرعية.. كما ستعلن إيران انضمامها إلى المنطقة العربية والعالم كله في حربها ضد داعش.. والله يا أبو علوة.. أنت الوحيد بين الكتاب العرب الذي في حاجة للحظة الاستنارة هذه لترى الأمور على حقيقتها الكئيبة.