&سليمان جودة

&إذا كان أحد منا لا يزال يذكر أجواء يناير (كانون الثاني) 2009، التي جاء فيها باراك أوباما رئيسا للولايات المتحدة، فلا بد أن أجواء اليوم، ونحن نقترب من مرور سادس يناير عليه في البيت الأبيض، تجعلك تتساءل عما إذا كانت أجواء ما قبل ست سنوات تقريبا، قد خدعت العالم إلى هذا الحد!


والأجواء التي أقصدها لم تكن لأن الرئيس الجديد وقتها كان رئيسا شابا، ولا لأنه كان من بين أبناء جامعة هارفارد، التي جرى تصنيفها مرارا كأفضل جامعة في العالم، ولا حتى لأنه قد جاء إلى الحكم بعد ثمانية أعوام عجاف قضاها الجمهوريون من خلال بوش الابن في السلطة، والتي كانت سنوات كارثية في أكثر من ركن من أركان العالم، والتي أيضا لم يفلت الاقتصاد الأميركي نفسه من سوء عواقبها.
لا.. لم يكن أي سبب من هذه الأسباب الثلاثة وراء أجواء التفاؤل التي سادت وشاعت في ذلك الوقت، وإنما كان السبب الحقيقي أن أوباما، الذي يمثل الرئيس الرابع والأربعين لبلاده منذ إعلان استقلالها، كان أول رئيس أسود بينهم جميعا، وبالتالي، فقد جاءت المسألة بمثابة السابقة التي لم يعرفها الأميركان بامتداد قرنين ونصف القرن من الزمان.
وبما أن الرئيس الجديد كان هكذا، فقد انعقدت عليه آمال عريضة، لم تلبث أن تبددت كلها، أملا وراء أمل، داخل بلاده وخارجها سواء بسواء.
وكانت الذروة في خيبة الأمل، في أوباما، يوم أن قال أول هذا الشهر إن إدارته لا تملك استراتيجية متكاملة لمواجهة تنظيم «داعش» الإرهابي، الذي أخلى مدينة الموصل العراقية من جميع مسيحييها، لأول مرة في تاريخها، دون أن تهتز شعرة في رأس الرئيس الأميركي، ودون أن يرمش جفن في عين أي مسؤول غربي، ممن ظلوا لسنوات، ولا يزالون، يحدثوننا عن حقوق الإنسان، من حيث هو إنسان! فإذا بالمسيحيين في الموصل ليسوا من بني الإنسان!
وإذا كانت هذه هي ذروة خيبة الأمل في أوباما، خارج الحدود الأميركية، فالذروة الداخلية كانت عندما سقط شاب أميركي أسود، الشهر الماضي، صريعا على يد ضابط أميركي أبيض، في مدينة فيرغسون بولاية ميسوري.
ولو سقط الشاب، ثم تلا سقوطه ما يشير إلى أن واقعته أمر عابر، ما كان لنا أن نتوقف أمامها، ولكن ما حدث هو أن الشرطة الأميركية، وهي تتصدى للذين احتجوا على مصرع الشاب، قد راحت تتعامل معهم بعنف وصل إلى حد استخدام سلاح من جانبها لا يجري استخدامه في العادة، إلا في الحروب!.. ولأن بعض المحتجين في المدينة، ثم في الولاية، قد مارسوا عنفا في مواجهة السلطات، فإن كل ما استطاع الرئيس الأميركي أن يعلق به، في غمرة الاحتجاجات والمظاهرات، قد جاء في عبارات موجزة عن أن ممارسة العنف ضد الدولة أمر غير مقبول.
وهو كلام صحيح بالطبع، ونبصم بالعشرة عليه وراء أوباما، على حد تعبير المثل المصري الشائع، غير أن ذلك يجعلنا نسأله في الوقت نفسه عما إذا كان العنف الذي انخرط فيه بعض السود، ضد الدولة الأميركية، أمرا غير مقبول في نظره، بينما العنف الذي يمارسه الإخوان المسلمون، وأتباعهم، ضد الدولة المصرية، على مدى ما يقرب من العام، ونصف العام، أمر مقبول ومحمود، بل ومرحب به من جانب إدارة أوباما ذاته، الذي - لا يزال في ما يبدو - منذ ثورة 30 يونيو (حزيران) 2013، التي أسقطت الإخوان، يرى أن عنفهم له ما يبرره، بل ويشجعه، ثم يتعاطف معهم، ويتعامى عن إرهابهم على لسان أكثر من مسؤول في أركان إدارته!
غير أن حكاية الشاب الأسود الصريع لها بقية تتجسد على أفضل ما يكون في تقرير نشرته «الأهرام» لزميلتنا ميادة العفيفي، يوم السبت 30 أغسطس (آب) الماضي.
وترجع قيمة هذا التقرير إلى شيئين أساسيين؛ أولهما أنه يتحدث بلغة الأرقام، وثانيهما أنه يعتمد في أرقامه على بيانات صادرة عن معهد السياسات الاقتصادية الأميركي، مرة، وعن مكتب الإحصاء الأميركي مرات!
التقرير يتكلم عما بين البيض والسود من فوارق هائلة في المجتمع الأميركي، ومنها على سبيل المثال أن معدلات البطالة بين السود أكثر من ضعفي معدلاتها بين البيض، وأن معدل البطالة الأميركي الرسمي بين المواطنين الأميركيين البيض، في يوليو (تموز) 2014 كان 3.5 في المائة، وكان المعدل نفسه بين المواطنين الأميركيين السود في الوقت ذاته 4.11 في المائة، وأن متوسط دخل الأسر البيضاء في أواخر عام 2012 كان يعادل 22 ضعف متوسط دخل الأسر السوداء، وأن 12 في المائة من الأطفال البيض يعيشون في مناطق فقيرة في مقابل 45 في المائة من الأطفال السود يعيشون في أحياء مماثلة.. وهكذا.. إلى آخر ما ورد في التقرير من أرقام، ونسب ومعدلات، وكلها تكاد تقول إن المواطن الأميركي الأسود الوحيد، الذي تحسن حاله، هو باراك أوباما، وإن أحوال المواطنين السود، فيما عداه، لا تزال على سوئها، ولم يغير منها مجيئه إلى مكتبه البيضاوي في شيء!
فما معنى هذا كله؟!.. معناه أن حكاية الشاب الأميركي الأسود الصريع ليست إلا رأسا لجبل ثلج عائم، وأن الغاطس من الجبل أكثر بكثير من الظاهر أمامنا، وأن تلك الأجواء التي صاحبت فوز أوباما في السباق الرئاسي كانت كلها من النوع الاحتفالي، الذي يبرق نوره أمام العيون فيخطفها، فإذا ما عاد البصر إلى طبيعته اكتشف أن واقعا لم يتغير، وأن الأضواء اللامعة، وقت الأجواء الاحتفالية، كانت تغطي أكثر مما تعري!