خطوات غير واثقة في تنفيذ استراتيجية غير مقنعة

جميل مطر

مرة أخرى يؤكد الرئيس أوباما أن لأميركا في عهده، وربما في المستقبل المنظور، سقفاً لن تتجاوزه في تنفيذ سياستها الخارجية والمحافظة على مصالحها القومية. كان واضحاً خلال الأيام القليلة الماضية أن أميركا بذلت جهداً لا بأس به لتشكيل تحالف دولي لمحاربة «داعش» وغيره من التنظيمات الإرهابية، تحالف تقوده بنفسها متعهدة أمام أطراف التحالف والرأي العام الأميركي أنها ستتولى مسؤولية القصف الجوي، وإن احتاج الأمر، فلن تتردد في شن عمليات متفرقة للقوات الخاصة. تعهدت أميركا أيضاً بقيادة حملات لتجفيف منابع التمويل للإرهاب. على كل حال لم يصدر عن أي مسؤول أميركي إشارة أو تلميح إلى أنها ستشارك بقوات برية في أي معركة ضد الإرهاب.

&

إلى هنا، ولا جديد مهماً في الاستراتيجية الأميركية للحرب ضد «داعش». إلا أن الرئيس الأميركي ربما يكون قد أساء من دون قصد إلى سمعة استراتيجيته ومستقبلها عندما أشار إلى أنه يعتبر الصومال واليمن نموذجين للحرب المقبلة ضد إرهاب «داعش» والتنظيمات الأخرى. فهمنا من هذه الإشارة أن الحرب ستكون طويلة جداً، وأن أميركا ستتولى قيادة الحلف الدولي الذي سيتصدى للإرهاب فيهما. فهمنا أيضاً أن أميركا ستتولى بنفسها تنفيذ عمليات قصف بالطيران أو إسقاط جوي تستهدف بها أفراداً أو منشآت في التنظيم الجهادي والإرهابي.

&

كان لا بد من أن نفهم كذلك أن الحربين اللتين يستشهد بهما الرئيس كانتا مكلفتين على رغم تواضع نتائجهما. حربان طويلتان للغاية بالنسبة للإمكانات المالية والعسكرية المخصصة لهما ومكلفتان للغاية بالنسبة للخسائر في صفوف المدنيين في كلا البلدين ولتدهور الأوضاع الاقتصادية والسياسية فيهما نتيجة الحرب. بهذا المعنى، تكاد استراتيجية الرئيس أوباما لمحاربة «داعش» وأخواته تتبنى التوصيف الذي اختاره وزير خارجية بريطانيا للجولة الجديدة في الحرب العالمية ضد الإرهاب، وهو «لا حرب ولكن حرب».

&

أظن في قرارة نفسي أن غالبية أطراف التحالف لم توافق على الانضمام إلا بعد أن تأكدت من عبقرية هذا الوصف. «هي لن تحارب، ولكن ستجد من يحارب».

&

هي راضية بقيادة أميركا على رغم علمها أن لأميركا أهدافاً خاصة في هذه الحرب. وهي مدركة لاحتمالات تصادم الأهداف. وهي واعية، ربما ليست جميعها، لأهمية التغيرات التي يمكن أن تحدث في منطقة الشرق الأوسط ومكوناتها وتركيباتها المتنوعة نتيجة هذه الحرب. بكلمات أخرى هناك في بعض العواصم العربية، كما في عواصم أخرى مثل موسكو وبرلين ونيودلهي وبكين، انشغال وقلق في شأن التغيرات الكثيرة، هيكلية واجتماعية التي ستحدث، بينما الإقليم يغلي فوق أتون حرب وضغوط ومؤثرات طائفية وعرقية وعمليات تهجير أو تبادل للسكان واغتيالات ومؤامرات.

&

يذكر، نتيجة للملاحظة، أن استراتيجية أوباما لا تحظى برضا قطاعات واسعة من الرأي العام في المنطقة. أتصور أن عدم الرضا كان متوقعا منذ أن بات معلناً وواضحاً أن الدول العربية، المهددة أساساً وأولاً بالإرهاب الجهادي، لن تشكل بنفسها ومن نفسها حلفاً يحفظ أمنها وأمن شعوبها، ولن تصنع استراتيجية طويلة أو متوسطة الأمد. لقد عرف الناس مسبقاً أن العرب سيقررون استدعاء أميركا لتأتي باستراتيجية حرب عالمية ضد الإرهاب. وعلى كل حال كانت أميركا جاهزة لترحب بالاستدعاء، بل وكانت في مجمل تصرفاتها في الشهور الأخيرة دافعة له وملحة عليه.

&

إن عدم رضا، وربما رفض قطاعات واسعة في الرأي العام العربي استراتيجية الرئيس أوباما، يعود أساساً إلى تجربتي التحالف الأميركي في الحرب ضد أفغانستان والعراق. التجربتان في نظر قيادات وصانعي الرأي العام فاشلتان، والنتائج على الأرض في الحالتين شاهدة على ما أصاب الدولتين والشعبين من تمزق وفوضى وسوء إدارة وأخطاء في التقدير ومهازل في تجارب إعادة البناء. يعود عدم الرضا أيضاً، كما ذكرت، إلى حالتي الصومال واليمن، وربما كذلك إلى حالتي السودان وليبيا.

&

لن يكون عدم الرضا الشعبي المشكلة الوحيدة التي ستواجه تنفيذ الاستراتيجية الأميركية في الحرب ضد «داعش». هناك مسائل وتعقيدات كثيرة أستعرض هنا بعضاً منها على سبيل المثل:

&

أولاً: يبدو أن الفهم الأميركي للطبيعة الدينية السائدة في بعض الدول العربية ما زال قاصراً، على رغم الطفرة التي شهدتها ساحات الأكاديمية الغربية.

&

أكاد أؤكد أن هذه الحرب، أو بمعنى أدق هذه الجولة في الحرب العالمية ضد الإرهاب ستكون كسابقاتها مدانة قبل أن تبدأ بأنها حرب «غربية وربما صليبية» ضد الدين الإسلامي. كان الوضع سيختلف، ولو قليلاً، لو أن قيادة هذه الموجة من الحرب ضد الإرهاب الجهادي أوكلت إلى دولة عربية إسلامية، أو انبثقت بإرادة منها.

&

لن تحظى استراتيجية أوباما برضا، ولا أقول مباركة، الرأي العام العربي، والإسلامي خصوصاً، طالما استمرت الأطراف العربية تلعب أدواراً تابعة في التحالف الذي تقوده أميركا، وطالما استمرت الولايات المتحدة تضغط لاتخاذ إجراءات وتخفيف اعتمادات مالية ضخمة للإنفاق على عمليات التحالف، وطالما انتهزت حكومات عربية فرصة خطاب الحرب لتتمادى في قمع معارضيها والقيادات الإصلاحية واتهامهم بالعمالة لجماعات متطرفة ودول غربية أو التعاطف معها.

&

ثانياً: تخطئ الولايات المتحدة وقوى الحكم في بعض دول ما كان يسمى الربيع العربي، إذا تصورت أن مشاعر التعاطف مع ثورات الربيع، وأسباب نشوبها قد خفتت أو اختفت. هناك تيار قوي في الرأي العام العربي، بخاصة في قطاعات الشباب، يشعر بأن قوى سياسية ومالية ودينية نجحت في الاحتيال على الثورات والشعوب، فأجهضت ثورة أو أكثر، ولكنها لم تفلح حتى الآن في نزع دوافعها وإغفال مسبباتها ووأد أحلامها.

&

هذا القطاع من جماهير أشعلت الثورة وعاشت أياماً هي الأروع في حياة أي شعب من الشعوب يعتبر الجولة المقبلة في الحرب ضد الإرهاب مجرد جولة أخرى من جولات محاولات التحكم في مسيرة تحرر الإنسان العربي وحرمانه من حقه في اختيار مستقبله. هناك شكوك تتردد بلا هوادة في الأندية الثقافية والمجالس السياسية حول «النوايا الجانبية» لبعض الأطراف التي ستشارك في هذا الحلف. لذلك، أتصور أن قطاعات لا يستهان بحجمها ونفوذها ستقف جانباً غير متحمسة لحرب تعرف أنها، بكل النهايات المتوقعة لها، لن تكون في مصلحة الغالبية العظمى من شعوب الأمة العربية والإسلامية. وبالتأكيد ليست في مصلحة الربيع العربي في موسمه المقبل... تردد القول إن القوى التي حاولت وفشلت في اختطاف الثورات مستخدمة علاقاتها بأميركا والحيل السياسية وإثارة الفوضى والتخريب واغتيال أنصار التغيير السلمي، تحاول مجدداً من طريق السلاح والتطرف الديني وأساليب الغابة والقمع وغياب الحريات.

&

ثالثاً: تسود قناعة في تيارات فكرية بأن أحداً، وأميركا في المقدمة، لم يقترب من إجراء مناقشة وطنية وقومية جادة للسبب الرئيسي وراء نشأة «داعش» وما قبله من تنظيمات سلفية متطرفة، وهو امتناع معظم القوى الحاكمة العربية عن الاستجابة سلمياً وإنسانياً وحضارياً لمطالب التغيير في العالم العربي.

&

يعني هذا، في نظر المتشككين في نيات الغرب وحكومات المنطقة، أن أميركا وغيرها من دول الغرب لن تتدخل مرة أخرى بالنصح أو الضغط على الحكومات العربية لإرغامها على تغيير أساليب الحكم التي ثبت بالقطع فشلها مرات ومرات: مرة عندما انتشر التطرف الديني فكرياً وعقائدياً ومرة عندما انشغل التشدد اليميني والديني بالإرهاب، ومرة عندما رحل شباب عاطل أو محبط أو يائس من معسكر السياسة والعمل المدني إلى معسكر الإرهاب، ومرة عندما قامت على أرض عربية «خلافة إسلامية إرهابية»، ومرة، عندما قررت حكومات عربية عدة تسليم قيادها إلى قوى غربية، أكثرها ما زال متردداً أو غير راغب أو زاهداً في الغوص مجدداً في رمال عربية غير آمنة وغير واثقة تماماً مما تريد.

&

رابعاً: كان لموقف روسيا الرافض أي عمل جماعي أو دولي من دون ترخيص من مجلس الأمن، أثره في إضعاف مكانة التحالف لدى الرأي العام العربي، بل وفي تعريض التحالف لخطر الانقسام المبكر. من ناحية أخرى يبدو أن الجهد الإيراني المكثف على صعيدين متوازيين، وهما الاقتراب من أميركا والابتعاد عن العرب، حقق الغموض الذي سعت إيران دائماً إلى خلقه وتنشيطه لتحقق به هدف الاعتراف بها إقليمياً وعالمياً قوة إقليمية كبرى. من ناحية ثالثة ما زال محل جدل مثير هذا الإجماع داخل قيادات الحلف الأميركية وقيادات عربية وإسلامية على إبقاء إسرائيل بعيدة من أنشطة الحلف المعلنة.

&

خامساً: لم يكن مفاجئاً بالنسبة إلى بعض المهتمين بمراقبة السلوك السياسي لنظام الحكم المصري في الآونة الأخيرة، أن يصدر عنه ما يشير إلى نيته اتخاذ موقف أقل التزاماً بأنشطة الاستراتيجية الأميركية لمحاربة «داعش» وأخواته.

&

لوحظ مثلاً إمعان النظام المصري التشديد على نية معلنة بعدم التدخل عسكرياً في سورية، وحرصه على إقناع الآخرين أيضاً بالامتناع عن التدخل سواء في سورية أو في ليبيا. هذا النوع من المواقف لا يختلف كثيراً عن موقف الحكم الجزائري من الضغوط الخارجية الكثيرة لتبني استراتيجيات مشابهة لاستراتيجية التدخل الأميركي.

&

هذا الموقف المصري، أو المصري - الجزائري، يستحق التأمل ليس فقط لأنه يخفف جذرياً من مبدأ «جماعية» العمل المناهض للإرهاب وفق الاستراتيجية الأميركية، ولكن أيضاً لأنه يضع المصلحة الوطنية أو الحالة المحلية في موقع الصدارة، بمعنى أن اهتمام مصر بحرب خارج الحدود لن يسبق اهتمامها بالحرب ضد الإرهاب في سيناء والصحراء الغربية وجنوب مصر. لا وجه للمقارنة بين السلوك السياسي لنظام مبارك والسلوك المتوقع للنظام الحالي، فالظروف الإقليمية والعالمية بل والمحلية، أكاد أقول جميعها مختلفة كل الاختلاف، وبالتأكيد فإن الظروف الراهنة الضاغطة على عملية صنع السياسة الخارجية ستفرض موقفاً مختلفاً. لا تخفى على العين الفاحصة حقيقة أن القاهرة، ومعها عواصم أخرى في المنطقة، لم تعد تأتمن الولايات المتحدة على مصالحها واستقرارها، وبعضها لا يأمن جانبها. هي الحقيقة التي تضع الكثير من علامات الاستفهام والاستغراب على موضوع استراتيجية التحالف ضد إرهاب «داعش» وأخواته.
&