عبد السلام اليمني

تعجب الإمام الشافعي -رحمه الله- من طبائع البشر آنذاك فقال:

&

لم يبق في الناس إلا المكر والملق

&

شوك إذا لمسوا زهر إذا رمقوا

&

فإن دعتك ضرورات لعشرتهم

&

فكن جحيماً لعل الشوك يحترق

&

لو عاش الإمام محمد بن إدريس الشافعي في عصرنا، وشهد مآسينا العربية، لتجاوز وصف المكر والملق والشوك، إلى ما هو أقسى وأدهى وأمر، فماذا عساه أن يقول عن القتل والتدمير والغدر والخيانة والظلم والإكراه والفساد والمخدرات وتجارة الأسلحة، وسيصيبه الحزن ويجهش بالبكاء عندما يسمع ويرى ما أصاب العدل والقضاء.

&

غالبية العرب عادوا طواعية -بعد إحباط الحاضر- إلى التغني بالزمن الجميل في القرن الماضي، على رغم ترهله وفقره وفسوق وجعجعة ثوراته. ابتلي حاضرنا العربي بنمط من التفكير العشوائي العاطفي الذي يهتم بالشكل، بعيداً عن المحتوى والتفكير الاستراتيجي السليم الذي لا يتطرق إلى الشك؛ ويغلب على الكثير الأسلوب الذي تفيهق به أصحاب المنطق القديم، بالمماحكات الشكلية واتهام الآخرين بالمغالطة والمكابرة. لم تؤثر في ثقافتنا اجتياح الاستنتاج المنطقي السائد عالمياً الذي يتكئ على بحوث علمية ويهتم بالنظرية والتطبيق.

&

لم تشفع لعالمنا العربي التجارب المريرة التي مر بها، بعد انتهاء عصر الاستعمار أو «الاستدمار»، كما يطلق عليه المعارضون المنتقدون له. تلاشى الاستعمار الذي تغلغل في معظم الدول العربية خلال النصف الثاني من القرن الـ٢٠، بعد أن بسط نفوذه من أجل استغلال ونهب منظم للثروات، وتحطيم كرامة الشعوب، وتدمير تراثها الحضاري والثقافي، وفرض ثقافة الاستعمار، على أنها الثقافة القادرة على نقل الشعوب المُستعمَرة إلى مرحلة الحضارة. احتفل العرب وأنشدوا ورقصوا على أنغام وُعُود قادة ثورات الخلاص من الاستعمار الأجنبي البغيض، ولكن ماذا بعد الوعود الوهمية؟ ولماذا الإرادة العربية تضعف شيئاً فشيئاً؟

&

بقيت قواعد وأسس التنظيمات الأساسية لأساليب الحكم العربية تتمدد، لترسيخ الأمر الواقع لأنظمة الحكم الشمولية، وفق نظرة وفلسفة أحادية، ومعها ظل الحراك السياسي والثقافي الشعبي منقادً للتشبيه بحادثة وقعت لمفكرين غربيين إبان القرون الوسطى، إذ أخذوا يتجادلون حول عدد أسنان الحصان، وظلوا في جدال ويتقاذفون بالوسائد والنعال، مع العلم أن الحصان كان موجوداً في إسطبل قريب منهم، وكانوا قادرين على أن يذهبوا إلى الحصان ليعدُّوا أسنانه.

&

إن غياب التفكير المنطقي السليم جعل هؤلاء المفكرين «في القرون الوسطى» يستمرون في جدليتهم ولم يتوصلوا إلى رأي حاسم، وكل واحد منهم تمسك برأيه بحسب قناعاته الشخصية، من دون استدلال واقعي لخدمة الإجابة على السؤال.

&

الفوضى اللامنطقية المعارضة للعقل والتفكير أرست قواعد الفجوة بين الحكم والمحكوم في المنطقة العربية، وأخذت تكبر وتتمدد حتى وصلت إلى خصوبة الأرض لنشوء الصراعات المذهبية، والجماعات المتشددة، والمنظمات الإرهابية. تنطلق صفارات الإنذار، وظلت صيحات الأخطار تتوالى على الأمة كل عقد من الزمان، وبعد إخمادها وزوال الخطر يذهب كل إلى غايته، وكأنّ شيئاً لم يحدث.

&

تتمثل أمامنا اليوم مشاهد أكثر خطورةً وتعقيداً على خريطة العالم العربي، وأي راصد بحواسه الخمس يجزم أن ما يحدث اليوم هو امتداد ونتيجة لما حدث بالأمس، وستستمر الحال على ما هي عليه بين مد الفوضى وجزرها، ما دام غياب الرؤية والتخطيط الاستراتيجي والحلول الجذرية لأنظمة الحكم وأساليب إدارته حاضرة ومسيطرة على العقول والفكر. والأرض الخصبة للفوضى والإرهاب لا يمكن إعادتها بكراً لتخضر بالحيوية والأمن والأمل من خلال قاذفات الصواريخ وراجمات القنابل.

&

على قادة الأمة والفكر والرأي في عالمنا العربي، أن يستسلموا في هذه اللحظة التاريخية الحاسمة لأمر واقع فرض نفسه وطال انتظاره، وهو إعادة صياغة أنظمة الحكم والإدارة على أسس تضمن حق المشاركة بالديموقراطية العميقة وليست الشكلية، والفصل بين السلطات الثلاث، التشريعية والتنفيذية والقضائية، وفق مبادئ وقيم العدالة وحقوق الإنسان. أبسطوا أياديكم للتغيير والتطوير؛ لأنها من سنن الحياة ونواميس الكون، ولأن تماسك الجبهات الداخلية وتضامنها قوة قاهرة للأعداء مستدامة.

&

المشكلات والقضايا العربية استوت على سفينة الأحلام المؤلمة، وغالبية الشعوب العربية المعتدلة، المعتزّة بدينها ولغتها وعروبتها، المستكينة الكارهة للفوضى والفساد، الحالمة بمستقبل زاهر، قميصها قُدّ من دُبر؛ وحتى يمكن تحطيم آمال قادة ومفكري الفوضى والصراعات المذهبية والآيديولوجية، أصبح لزاماً على من بيدهم الحل والعقد أن يُبحروا بالسفينة إلى مستقبل الأحلام السارّة، لم يعد هناك الكثير من الخيارات، والزمن يجري في مسارات وعرة وخطرة جداً، وحتى لا نصل إلى مرحلة اليأس.
&