&بدر العامر

لا يمكن أن آتي إلى مقررات حركة أو دعوة عريضة ولها كتب ومؤلفون وأحداث تاريخية وقضايا عينية وأعطيها حكماً واحداً، وإنما يحتاج الباحث أن يفصل في المسائل ولا ينزعها من سياقها ويحدد مناطات انتقاداته

&


لم يقرر الشيخ محمد بن عبدالوهاب - رحمه الله - ولا أحد من تلامذته ومن جاء بعده، "عصمة" الدعوة من الخطأ أو وضع السياجات عليها حتى لا تنقد، كيف وهو الذي كان يوجه النقد لأتباعه ويوجههم وينكر عليهم التجاوزات التي يفعلونها ويبين لهم مخالفتهم للكتاب والسنة، والأمثلة على ذلك كثيرة، فحين بلغه بعض أتباعه أنهم أنكروا على أحد الأشراف في الأحساء تقبيل الناس يده ولبس اللون الأخضر قال: (فقد ذكر لي عنكم أن بعض الإخوان تكلم في عبدالمحسن الشريف يقول: إن أهل الحسا يحبون على يدك وأنك لابس عمامة خضراء والإنسان لا يجوز له الإنكار إلا بعد المعرفة، فأول درجات الإنكار معرفتك أن هذا مخالف لأمر الله، وأما تقبيل اليد فلا يجوز إنكار مثله وهي مسألة فيها اختلاف بين أهل العلم، وقد قبل زيد بن ثابت يد ابن عباس وقال: هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا، وعلى كل حال فلا يجوز لهم إنكار كل مسألة لا يعرفون حكم الله فيها، وأما لبس الأخضر فإنها أحدثت قديماً تمييزاً لأهل البيت لئلا يظلمهم أحد أو يقصر في حقهم من لا يعرفهم، وقد أوجب الله لأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس حقوقاً فلا يجوز لمسلم أن يسقط حقهم ويظن أنه من التوحيد بل هو من الغلو..)، وغير ذلك من المواقف التي يصحح فيها سلوك أتباعه وينكر عليهم، والإمام في هذا يشق منهجاً في قبول النقد وإن الحق هو المقدم دائماً، وخاصة إذا أتى هذا النقد ممن استقامت أصوله واتبع السلف في عقيدته ومنهجه، وهو من صالح الدعوة واستمرار أثرها العقدي على الناس.
إن الأمر الذي رأيت فيه مبالغة كبيرة من بعض منتقدي دعوة الشيخ أو أتباعه هو في ربط " الدعوة" بجماعات الغلو والتكفير" وهذا من المبالغات التي لا تتفق مع أصول البحث العلمي، وخاصة أن الذي يعرف هذه الجماعات -وخاصة في جيلها الثالث- ليدرك أن أتباعها وقادتها لم يهتموا في كتاب "الدرر السنية"، بل إني أستطيع القول إن "أغلب" طلبة العلم في السعودية لا يملكون هذا الكتاب ولم يقتنوه، فالربط بين الكتاب ورسائل أئمة الدعوة وبين وجود حالة الغلو والتكفير لا يستقيم لمن يعرف هذه الجماعات، ومن ينظر في منهجها يدرك أنها تأخذ من هذه الرسائل ومن غيرها ما يوافق منهجها وتعرض عمن لا يوافق، ولو أخذنا قضية واحدة فقط لتبين هذا الأمر، فالتكفير بالموالاة هو من عمد هذه الجماعات، ومع ذلك نجد أن أول من فصل في الأمر تفصيلاً علمياً ومحكماً مثل الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن -رحمه الله- حين فرق بين اللفظ المطلق ومطلق اللفظ، وجعل (الموالاة التامة) هي الكفر فقط فقال: (ولفظ الظلم والمعصية والفسوق والفجور والموالاة والمعاداة والركون والشرك ونحو ذلك من الألفاظ الواردة في الكتاب والسنة، قد يراد بها مسماها المطلق وحقيقتها المطلقة، وقد يراد بها مطلق الحقيقة، والأول هو الأصل عند الأصوليين، والثاني لا يحمل الكلام عليه إلا بقرينة لفظية أو معنوية، وإنما يعرف ذلك بالبيان النبوي، وتفسير السنة)، ثم بين أن الموالاة والإعانة لغرض دنيوي لا ديني ليست بكفر، فقال في حديثه عن قصة حاطب رضي الله عنه: (قوله -أي النبي صلى الله عليه وسلم- " صدقكم، خلوا سبيله" ظاهر في أنه لا يكفر بذلك، إذا كان مؤمناً بالله ورسوله، غير شاك، ولا مرتاب؛ وإنما فعل ذلك، لغرض دنيوي)، فهذا الرأي المحرر لهذه القضية المهمة أين هؤلاء منها؟ ولماذا لم يأخذوا هذا التفصيل المتوافق مع مقررات أئمة الدعوة في هذا الباب؟ وأن هذا التأصيل ينقل ما يدعونه من الإجماع على التكفير في هذا الباب بلا تفصيل وأن هذا ينقل المسألة لكونها خلافية لا يقام عليها تكفير ولا قتال ولا استحلال.
والدليل على خطأ هذا الربط أن علماء الدعوة وخاصة في الدولة السعودية الثالثة، كانوا ضد هذه الجماعات في مقرراتهم وتأصيلاتهم، ورفض المنهج الذي تنتهجه هذه الجماعات، فحين كانت هذه الجماعات تكفر الدولة السعودية وتقف ضدها لأجل استعانتها بالغرب في حرب الخليج أو في أحداث أفغانستان كان علماء السعودية الذين هم امتداد لدعوة الشيخ، ضد هذه الجماعات ومتسقين مع الساسة، ولم يروا في تصرف الحكومة كفراً وردة.
إن التعميم الذي يطلقه منتقدو دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، رحمه الله، وهم عندي ليسوا على مستوى واحد، فالكثير منهم هم امتداد للصراع بين دعوته وبين أصحاب المصالح من أهل البدع والقبورية الذين يرون في دعوة الشيخ قطعاً لمصالحهم، ومنهم من هو دون ذلك، ومنهم من هو ناصح مشفق ويعتبر نفسه من ضمن المدرسة وليس بعيداً عنها، هذا التعميم يوقع في خلل منهجي ويبتعد عن العلمية والموضوعية، فلا يمكن أن آتي إلى مقررات حركة أو دعوة عريضة ولها كتب ومؤلفون وأحداث تاريخية وقضايا عينية وأعطيها حكماً واحداً، وإنما يحتاج الباحث أن يفصل في المسائل ولا ينزعها من سياقها ويحدد مناطات انتقاداته، سواء على القضايا النظرية الأصلية أو على تطبيقاتها الواقعية، حتى يتم النقد بعلم وحلم وعدل وإنصاف، فسواء أقررنا بوجود أخطاء أم لم نقر، فإن هذا لا يعني الارتباط بين الحركتين.
كما أن من المساوئ الأخلاقية اتخاذ الأحداث طريقاً لتصفية الحسابات مع الخصوم المفترضين، ثم نحمل الأمور ما لا تحتمل، ونربط الربط المتعسف الذي يؤدي إلى التشويه، ثم الوصول إلى الأهداف التي هي المقصد من النقد في الأساس.
إن إحالة الظواهر الفكرية والسياسية والاجتماعية إلى عامل واحد خطأ منهجي ترفضه مقررات العلوم الاجتماعية المعاصرة، فتشكل هذه الجماعات ووجودها قضية "معقدة"، ولا يمكن إحالتها إلى عامل واحد، وليس بالضرورة أن يكون اعتماد هذه الجماعات على مقررات شرعية أو فتاوى أو أقوال أن يكون هذا إدانة لمن اعتمدوا عليه، فالخوارج الأوائل اعتمدوا في انحرافهم على آي القرآن الكريم.

&