مأمون فندي

منذ الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001، والعالم لا يتوقف عن الحديث عن ظاهرة الإرهاب. حديث متقطع لاجتماعات حماسية ما تلبث أن تهدأ، مخرجاتها هي تصورات غير مكتملة لمجابهة ظاهرة الإرهاب، وأولها غياب تصور شامل للإرهاب يرى الظاهرة في سياقاتها المختلفة العالمية والإقليمية والقطرية. في هذا المقال سأحاول أن أطرح التصور الأوسع لظاهرة الإرهاب الذي يمكننا من رؤية أوسع وأشمل إن كنا فعلا جادين في المواجهة هذه المرة، وإن كان النظام الدولي الحالي لديه من المرونة ما يسمح بتعاون جاد عابر للاختلافات الصغيرة من أجل مواجهة خطر يتهدد الجميع، يهدد الدولة الحديثة في أساسها من أجل خلافة عابرة للقومية، ويهدد نظام «سايكس - بيكو» في منطقتنا بالتحديد.


بداية فهم السياق العالمي الواسع للظاهرة هي مفتاح المواجهة، قبل أن نغرق في تفاصيل ظاهرة الإرهاب في الشرق الأوسط وحده. السياق العالمي للإرهاب ينحصر في الدوائر الأربع المتداخلة التي خلقتها حالة العولمة والتي تتمثل في: 1) دائرة حركة البشر، حيث يتنقل الناس بحرية أكبر، ويحملون جنسيات دول لم يولدوا فيها أو تكون جنسيتهم في مكان، وولاءاتهم لبلدان أخرى أو قضايا أخرى، ويمكن للفرد منا أن يتخيل هذا في صيغته الأصغر الشرق أوسطية. 2) أما الدائرة الثانية، فهي حركة المال غير المسبوقة في العالم كله، ولو تخيلنا حزمة المليون دولار التي تصل إلى متر في الارتفاع، فنحن نرى تحرك جبال من الأموال كل يوم عبر الأطلسي وحده بين نيويورك والعواصم الأوروبية بعلو جبال الهيمالايا؛ وبالطبع هذه هي الحركة القانونية، لكن هناك أيضا حركة أموال غير قانونية لا تقل عنها في عالم غسيل الأموال. الدائرة التي يتحرك فيها المال عالميا دائرة مخيفة بمفردها. 3) أما الدائرة الثالثة فهي دائرة حركة الأفكار والآيديولوجيات، وهي الدائرة التي تتحرك فيها أفكار المودودي من باكستان إلى أوروبا، أو كتاب سلمان رشدي من أوروبا إلى العالم الإسلامي، في ساعات، وعلاقة هذه الدائرة بالدوائر الأخرى. 4) الدائرة الرابعة والأخيرة هي دائرة الإعلام التي نعرفها جميعا الآن والتي تلف العالم كله، من ميديا التواصل الاجتماعي مثل «تويتر» و«فيسبوك» إلى الميديا التقليدية من فضائيات وغيرها. هذا هو السياق العالمي الذي تتحرك فيه ظاهرة الإرهاب بجماعاتها ومنظماتها.


أما على مستوى الشرق الأوسط، فنحن نتحدث عن سياق ضيق وأكثر تحديدا رغم ارتباطه بالدوائر الأربع سالفة الذكر والاستفادة منها إلى أقصى مدى ممكن.


في منطقتنا العربية نحن نتحدث عن الإرهاب، ليس في إطار الدوائر الأربع العالمية، بل يمكننا رسم صورة هندسية أخرى يمكن تسميتها بمثلث الإرهاب. أضلاع هذا المثلث تتكون من: ضلع دول راعية وداعمة للحركات المتطرفة، وضلع المنظمات الإرهابية ذاتها، أما الضلع الثالث فهو ضلع الأفكار أو الآيديولوجيات التي تشرعن القتل خارج إطار القانون، وأيضا تبرر للذبح بعد وقوعه.


لن يستقيم حالنا إلا إذا واجهنا في منطقتنا الأضلاع الثلاثة لمثلث الإرهاب: الدول الراعية، والمنظمات المنفذة على الأرض، والأفكار التي تبرر القتل وتجعل أمرا في الأصل هو عمل بربري بشع يبدو مقبولا لدى إنسان سوي.
إذا ما أخذنا هذا الكلام النظري وطبقناه على ظاهرة «داعش» في بلاد الشام والعراق، أو حركة الإخوان في مصر والشمال الأفريقي، نرى بوضوح لا يقبل الشك أن هذه الجماعات إما تستخدم أو تستفيد من التناقضات القائمة بين دول الإقليم ذاته. فنجد دولة ما تمول «الإخوان» نكاية في دولة أخرى، ودولة أخرى تمول الحوثيين في اليمن لتحقيق مكاسب سياسية ضد دولة منافسة. أي أن فشل نظام الدول الإقليمي أساسي في استمرار هذه الحركات على قيد الحياة. الحركات لا تملك أموالا فقط، هي تملك شبابا يتحركون عبر الحدود، في دائرة حركة البشر المعولمة أو الإقليمية، يعملون كجماعات مرتزقة جزء من عملها لدول بعينها والجزء الثاني لها هي من خلال فائدة مادية مباشرة أو تعظيم نفوذها، كما في حالة أبو بكر البغدادي وجماعته، أو حالة «الإخوان» التي نجحت في السيطرة على أكبر دولة في الإقليم لمدة عام كامل بتمويل ورعاية دول بعينها.


إن لم تحدث مصارحة وحوار جاد حول دور الدول في رعاية الإرهاب لتحقيق مكاسب سياسية، فمن المؤكد أن الحرب على «داعش»، بكل ما سينفق فيها من أموال، لن تقضي على الظاهرة.


أما الضلع الثاني الذي يجب مواجهته في مثلث الإرهاب فهو ضلع المنظمات، وعلى هذا خلاف بين جميع الدول المشاركة في التحالف. فأميركا وتركيا مثلا تريدان القضاء على منظمة «داعش»، لكن كلتيهما لا ترى تنظيم الإخوان تنظيما إرهابيا، أو أنه المنظمة الأم التي أفرخت كل هذه الظاهرة من «القاعدة» إلى «داعش». دول التحالف تريد أن تواجه المنظمات الإرهابية بانتقائية، وهذا لن يحل المشكلة، إذ إنه يتعامل مع العرض ويترك المرض.
أما الضلع الثالث، فمعظم الدول تشترك فيه بدرجات مختلفة، وهو ضلع آيديولوجيا الإرهاب التي تشرعن قتل غير المسلم وتبرره. وفي هذا لا بد أن نكون صرحاء بداية مما تبثه المساجد والمدارس من أفكار متطرفة، إلى تلك السموم التي تبثها قناة «الجزيرة» لمدة أربع وعشرين ساعة يوميا، سبعة أيام في الأسبوع، وثلاثين يوما في الشهر.


أعرف أن هناك موظفا في جهاز مخابرات ما، سيقول إننا في مرحلة تهيئة أجواء ستأخذنا إلى نقطة أفضل، ولا داعي لأن نشير لبعضنا بالبنان فنعطل المسيرة. هذا النوع من التفكير يصب في الخانة ذاتها التي تبرر، ولكن ربما من دون وعي أو قصد.


كنت في جلسة مع بعض الإنجليز والأميركان منذ أيام لمناقشة هذه القضية، وقال رجل إنجليزي لزميله الأميركي «ألم يكن عندكم في أميركا من يدفع أموالا للجيش الآيرلندي (IRA) تعاطفا مع قضية آيرلندا، رغم أننا هنا على هذا الشاطئ من المحيط نرى أن الجيش الآيرلندي منظمة إرهابية؟ كذلك المسلمون يرون ما كُنْتُم ترون في دعم الـ(IRA)» الخلل الحادث في الرؤية بين الدول وبعضها في ما يخص أضلاع مثلث الإرهاب، هو الذي قد يؤدي إلى فشل المواجهة.


البعض منا أيضا يريد أن يحمل قطار الحرب على الإرهاب أجندته الخاصة التي قد تتناقض مع أجندة غيره، وهذه وصفة أخرى للفشل.


في مواجهة الإرهاب نحن نتحدث عن مواجهة الثغرات في الدوائر الأربع العالمية: دائرة حركة البشر، ودائرة حركة المال، ودائرة الإعلام، ودائرة حركة الأفكار. أما إقليميا، فإن مواجهة الإرهاب تعني تكسير أضلاع المثلث كلها: الدول الراعية للإرهاب، والحركات والمنظمات الإرهابية، وتفكيك منظومة الإرهاب الفكرية وأدواتها التي تشرعن وتبرر البربرية الحديثة.


غير ذلك نكون نعالج فقط عرضا لمرض، بينما يستفحل المرض في مستقبل الأجيال القادمة.
الصراحة قبل المواجهة هي الحل.