عبد الوهاب بدرخان

في عام 1993 كان للولايات المتحدة تدخل وصف بأنه «إنساني» في الصومال، على رأس قوة دولية لحفظ السلام انتدبتها الأمم المتحدة غداة سقوط نظام سياد بري وبروز خطر مجاعة مع انتشار ميليشيات متناحرة وشيوع الفوضى. ولكن المهمة «الإغاثية» المحدودة أظهرت بعض الاهتمامات السياسية فأثارت سريعاً أعمالاً عدائية تحوّلت إلى اشتباكات ضارية في شوارع مقديشو، ما أدّى إلى الانسحاب الأميركي في مارس 1994. مضت 20 عاماً تفككت خلالها الصومال دويلات مراوحة بين شيء من الاستقرار في الشمال وكثير من الاضطراب والخطر في الجنوب. وفيما تواصل التخبّط بحثاً عن مصير هارب مرّت الحال الميليشياوية فيها بتقلبات عدّة، منها ما انغمس في القرصنة البحرية، ومنها ما ولّد «حركة الشباب» كفرع محلي لتنظيم «القاعدة» لا يبدو له هدفٌ آخر غير تعطيل قيام الدولة مجدداً، ولا يتردّد في تنفيذ عمليات في البلدان المجاورة كما حصل العام الماضي في كينيا.

ومنذ تفجير المدمرة الأميركية «يو إس إس كول» في ميناء عدن (أكتوبر 2000) بدأ تدخل أميركي لمساعدة السلطات اليمنية على مكافحة الإرهاب وضربه. وفي العامين التاليين استقبلت الخلايا الصغيرة النائمة أفواجاً من «القاعديين» الهاربين من أفغانستان لتصبح تنظيماً متغلغلاً في النسيج القبلي والمناطقي وفي بعض نواحي صنعاء، بل راح يطوّر الوسائل ويصدّر قنابل مزروعة في أجساد الانتحاريين. وطوال تلك الأعوام لم تضع السلطة الخطة اللازمة لطرد هذا التنظيم، ولا الولايات المتحدة تخطت المستوى المحدود الذي رسمته لدعمها. وفي ظل الاضطراب السياسي الذي يمرّ به اليمن صار تنظيم «القاعدة في جزيرة العرب» واحداً من الأطراف التي تستغل الأزمة لتحقيق مكاسب جنباً إلى جنب مع انفصاليي الجنوب وحوثيي إيران في الشمال.


وفي عام 2001، بعد هجمات 11 سبتمبر الإرهابية، أعلنت الولايات المتحدة «الحرب على الإرهاب» وقادت تحالفاً دولياً لغزو أفغانستان واحتلالها، محققةً هدفين في آن: إنهاء حكم حركة «طالبان»، واقتلاع تنظيم «القاعدة» من الأرض التي وفّرت له ملاذاً وحقولاً للتدرّب وخطوطاً للتسلّح. وفيما تفرّق «القاعديون» في اتجاهات شتّى واستمرّت مطاردتهم قادةً وعناصر، انكفأ عناصر «طالبان» إلى العمل السري تحت الأرض قبل أن يعاودوا الظهور ويقوموا بعمليات خطيرة حالت دون بناء أي استقرار في العاصمة كابول. وبعد ثلاثة عشر عاماً لم يتمكّن تحالف «إيساف» من إقامة حكم قوي ومقبول، ويستعد الأميركيون للانسحاب بنهاية هذه السنة وسط سيناريوهات مجمعة على أن «الطالبان» عائدون.

وبعد عامين، أي في 2003، كان غزو العراق واحتلاله بتحالف لم يحظَ بشرعية دولية، وبذريعة أن نظام صدّام حسين يشكّل تهديداً إقليمياً دولياً سواء بامتلاكه أسلحة دمار شامل لم يُعثر عليها، أو بإقامته قواعد للإرهاب ولم يثبت أنه فعل. ولكن، بعد إسقاط هذا النظام وبسبب أخطاء فادحة ارتكبتها سلطة الاحتلال وحلفاؤها العراقيون، بدأت مجموعات مسلحة العمل على «مقاومة الاحتلال الأميركي»، في ظلّ نظام جديد عمد الى التمييز ضد السُّنة، ثم ظهرت مجموعات إرهابية خالصة تستقطب عناصر من كل الأصقاع، وسُمّيت أولاً «القاعدة في بلاد الرافدين» ثم «دولة العراق الإسلامية»، إلى أن اندلعت الانتفاضة الشعبية في سوريا عام 2011 واتسمت فوراً بعنف مارسه النظام مستهدفاً السُّنة ومدنهم الكبرى، ثم بزرع مجموعات إرهابية في مناطق المعارضة كوسيلة ناجعة لتصوير الحراك الشعبي كأنه مجرد «ظاهرة إرهابية» يجب التضامن مع النظام نفسه للقضاء عليها. وفي 2012 تحقق لهذا النظام ما سعى إليه بإعلان ولادة «جبهة النُصرة» التي بايعت زعيم «القاعدة» أيمن الظواهري، ثم بظهور «الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش). ولكن، قبل ذلك، كان الأميركيون انسحبوا من العراق بنهاية 2011، واستفرد نوري المالكي بالنظام والسلطة مؤججاً العداء للسُّنة والأكراد، ما أدّى إلى تحالفات الضرورة في المحافظات السُّنية فانبرى تنظيم «داعش» للسيطرة عليها وربطها بمناطق سورية بعدما ألغى الحدود ثم أعلن تنصيب «أبوبكر البغدادي» «أميراً» وقد اشتهرت جماعة «داعش» بالفظائع الدموية واضطهاد الأقليات وأمكن التعرّف إلى همجيتها لا إلى «إسلاميتها».

وحتى ليبيا التي تخلّصت من النظام السابق بتدخل جوي لحلف الأطلسي، وبقيادة أميركية في المرحلة الأولى، استبعدت فيها القوى الخارجية أي تفكير في اليوم التالي، ولم يفطن أحد إلى أن الفوضى والإرهاب سيستشريان لاحقاً مع أن المؤشرات كانت بالغة الدلالة. واليوم لا تنفك ليبيا تغرق في لجة أزمة سياسية- أمنية، والبعض يقول أزمة وجودية، فيما يشير آخرون إلى حال «صوملة» متفاقمة. وهي الحال نفسها التي تعانيها حالياً، أقل أو أكثر، دول عربية عدّة.

وفي ضوء هذه التدخلات ونتائجها تتسارع إرهاصات حرب جديدة على الإرهاب في العراق وسوريا. ولا يتردد الرئيس الأميركي في تقديرها زمنياً بسنة أو سنتين أو ثلاث، بل لا يغامر بتوقّع القضاء على الإرهاب، فقد أضحى ذلك طموحاً بعيد المنال. لذلك يكتفي بتأكيد الحصول على «إضعاف» لتنظيم «داعش» مع تمني «تدميره». ولاشك أن قياس الحرب الآتية إلى التدخلات الأربعة المتنوّعة التي سبقتها يفضي إلى حرب دائمة، راسخة وعضوية، تحاول التعايش مع السعي إلى أي درجة ممكنة ومتاحة من الاستقرار، أي تماماً كما هي الحال في البلدان التي ذُكرت.
&