طيب تيزيني

انطلقت عواصم الغرب منذ بعض الوقت تعلن بصوت لاهث، دعوتها للوقوف في وجه "التسونامي" الإجرامي الجديد "داعش"، الذي يمثل ظاهرة خطيرة في الحقل الأكثر حساسية، أي في حقل الأديان والعقائد والأيديولوجيات، فهذه جميعاً تبرز هنا بصفتها حقولاً مغلقة بإطلاق لا تحتمل قراءة متحركة أو قراءات متعددة ممكنة، فإما أن تأخذ بها جزءاً وكلاً، وإما أن تأخذ مكانك بمثابة حالة مطلقة ومغلقة وغير قابلة للاحتمالية ولا للتأويل، بصيغة ما وبوجهة ما، فإن موقفاً من هذا النمط يُعرّف بذاته من دون غيره.

إن قيام المسلم ببذل جهد صادق في قراءته وتأويله النص القرآني المقدس، يعتبر مدخلاً مقبولاً، مع حثّه على الاجتهاد وتدخل هنا كذلك الفكرة المستنبطة من الحديث النبوي القائل أن «القرآن ذو وجوه متعددة، فخذوا بوجهه الحسن»، لتعمق أبعاد القراءة القرآنية (الحسنة).

ذلك جميعاً يجعل أمثال "داعش" حالة أو قراءة أو أمراً مستعصياً على البشرية وخارجاً عن القراءة الحسنة وما عليها، وهذا بدوره يضع الناس المؤمنين في آخر فسحة من عنق الزجاجة، مما يُخرج الموقف من المنظومة الدينية الإسلامية والمنظومة الأخرى الإنسانية النبيلة.

ما وصل إليه "داعش"، وما يطالب به يُمثل حالة تعجيزية بحد أقصى، وهذا يعني أن (داعش) نفسه يمثل ضحية الفساد والإفساد والظلم والاستبداد والإفقار، الذي عمّ العالم واخترقه، والملاحظ الطريف أن هذا الواقع الهائل في ظلاميته ومأساويته هو الذي يُراد له الآن أن يوحّد العالم تحت راية (مكافحة الإرهاب)، لماذا يعيش هذا العالم في ذعر مريع؟ لأن الموس وصل إلى ذقونهم جميعاً! والحق، إذا ما تتبعنا تاريخ الإرهاب بدقة، وجدنا إحدى مراحله ماثلة في مداخل ومظاهر متعددة، منها الدولة الطبيعية الطائفية بسلطة استبدادية تلتهم ثروة المجتمع وحق العمل وعدالة العمل ومصداقية المدرسة وشفافيتها، معاً مع تكريس إعلام الوطن والشعب والبناء لخدمة رؤوس أو رأس الدولة والمجتمع، ومع قضاء فاسد يلتهم الحق والحقيقة ويزج في السجون عشرات ألوف الشرفاء والمهمشين… الخ، إن مجتمعاً يقوم على الحرية والعدالة والمدنية والديمقراطية والمساواة هو الذي يحول دون نشوء الفساد والإفساد والاستبداد والإفقار والإذلال والتهميش والتجهيل المعرفي والثقافي، ومن ثم الإرهاب وهذا ما هيمن على المجتمعات الرأسمالية الاستعمارية والأخرى المتخلفة والمخلَّفة والمحكومة من قبل آليات النظام الأمني الاستبدادي واستئثار بالثروة والسلطة والإعلام والمرجعية المجتمعية.

هكذا نضع يدنا على قاع الإرهاب وجذره، إنه مجتمع القلّة الفاسدة المجرمة التي أثْرت وتُثري على حساب الأكثرية الكادحة. هذه القلة التي قد توظف الهوية الطائفية أو الدينية أو الإثنية في خدمة التأسيس لتفكيك مجتمعها وإفقاره وإذلاله وتهميشه من طرف أول، إضافة إلى أنها قد تستفز هذا المجتمع وتورّد له أنماطاً من المشكلات والاستفزازات ذات الديمومة الزمنية من طرف آخر، تلك التي تبرز منها مثلاً مأساة الشعب الفلسطيني، ومن ضمنه أطفال ونساء، وكذلك مأساة الشعب السوري الذي يعيش مأساة إجرامية غير مسبوقة، ومن ضمنها صورة تهز الأعماق لطفل بعمر ستة أو سبعة أعوام، وهو نائم بين قبرين لأمه وأبيه.

الإعلان عن تشكيل قوات عسكرية عالمية لمواجهة "داعش" أمر مشروع وفي غاية الأهمية، ولكن من دون غض الطرف عن كون الإرهاب الذي يهز العقل والضمير والإنسانية والذي يعيشه العالم، لم يأت من "داعش" فحسب، بل هو ذو تاريخ أسود أنتجته وكرّسته وعمّمته مرجعيات العصابات الدولية خصوصاً في البلدان التي تقوم على جهود عصابات متخصصة بالقتل والذبح، الذين يبرزان بمثابة استراتيجية دولة أو بعض دولة، إن "داعش" تعبر عن أكثر الجرائم خِسّة وشناعة، ولكن الفريق الآخر الذي يحصر الإرهاب في حقل الغرب الراهن ويبرر بلداناً من الشرق ليست بعيدة عن المشاركة في الحرب ضد الشعب السوري وفي سبيل تكريس نمط من الإرهاب الدولي.

ليس ثمة ما يسمح بتسويغ أعمال الطرف الآخر من المعادلة، أو ما يُخفي أعمال هذا الطرف الآخر، كلاهما، الغرب والشرق متورط بأعمال إرهابية موجهة إلى الشعب المظلوم، وعلى أرضه، ويبقى القول حاسماً بأن الدعوة إلى تأسيس قوة دولية مضادة لداعش، إنما كان على من يُطلقها ألا يسوغها، لأن الأيام والسنين السابقة عليها لم تكن تخلو من أعمال إجرامية قام بها الغرب وألحق عبرها الأذى الهائل بحياة وحقوق شعوب عربية مكافحة، في فلسطين وفي العراق وفي سوريا ولبنان وغيرهما، إذن، لنقل دعوة لتوحيد العالم عبر إسقاط قوى الشر والإجرام والإرهاب في كل العالم، ومن أجل تحقيق شعار العصر: الحرية والعدالة والكرامة والمساواة في مجتمعات وأوطان من نمط وموطن حر وشعب سعيد!
&