أحمد يوسف أحمد

لاشك أن ظاهرة الإرهاب في الوطن العربي قد تفاقمت على نحو ينذر بخطر داهم يفوق بكثير ما نراه الآن، وقد يجعل البعض على سبيل التندُّر يحن إلى إرهاب التسعينيات من القرن الماضي الذي يبدو «رومانسياً» إذا قورن بما يحدث الآن من امتهان لحياة البشر وكرامتهم ومفارقة تامة للإسلام. ويبدو تفاقم الظاهرة وخطرها من عدد من المؤشرات، أولها أن الإرهاب تحول من إرهاب داخل الدولة إلى إرهاب عبر أكثر من دولة. صحيح أن «القاعدة» كانت لها فروع في عديد من البلدان ولكن عمل كل من هذه الفروع كان يستهدف كل بلد على حدة حتى ولو اتخذ التنظيم اسماً إقليمياً منسوباً إلى الجزيرة العربية أو المغرب العربي أو المشرق أو وادي النيل، ولكننا الآن نتحدث على سبيل المثال عن تنظيم «داعش» الذي يشير اسمه أصلاً إلى تغيير في الخريطة السياسية للوطن العربي، والذي تمكن بالفعل من أن يقيم ما أسماه بـ«الخلافة» المزعومة التي يمتد «إقليمها» بين العراق وسوريا فضلاً عن استهدافه للبنان. أما المؤشر الثاني فهو أن تمويل التنظيمات الإرهابية حتى الأمس القريب كان من مصادر خارجية أساساً، والآن يمول «داعش» نفسه ذاتياً بعد استيلائه على أموال المصارف في المناطق التي احتلها وهي تحتوي أيضاً على آبار نفط أصبحت بدورها مصدراً للتمويل فضلاً عن موارده «السيادية»! في هذه المناطق. ومصدر الخطر هنا أن هذا التمويل «الذاتي» يزيد ولاشك من قدرته على الاستمرار ولو إلى حين. وثمة مؤشر ثالث على اختلاف إرهاب اليوم عن إرهاب الأمس، وهو أن الأخير كان يتبنى أسلوب الكر والفر المعروف بحرب العصابات: يضرب ويهرب، وهو أسلوب ما زال مُتبعاً إلى اليوم، ولكن «داعش» حولت الأسلوب إلى «السيطرة الإقليمية» وهو ما لا يمكن أن تسكت عنه الدول المعنية لأن السكوت يعني انهيارها.

&







ولا ريب في أن تفاقم خطر الإرهاب على النحو السابق يفضي إلى تداعيات كارثية على النظام العربي وأمنه القومي، فمن الواضح أولاً أن هذا التفاقم قد أفضى إلى المزيد من إضعاف دول ما يُسمى بـ«الربيع العربي» إضافة إلى العراق، إذ إنه باستثناء مصر التي نجح شعبها وجيشها في وقف المد الإرهابي وتوجيه ضربات نوعية لقوى الإرهاب، وإن لم تُجتث جذوره تماماً بعد، تعاني الدولة في كلٍّ من العراق وسوريا وليبيا واليمن من تآكل واضح لسيطرتها على إقليمها، وفي هذا الوضع يُصبح الحديث عن أي دور لهذه الدول في حماية الأمن القومي عبثاً وهي لا تستطيع أصلاً حماية أمنها الوطني وسلامتها الإقليمية. ويبدأ النظام العربي في مواجهة وضع جديد تماماً يعاني فيه من فوضى ضاربة شاملة بعد أن يرتفع عدد وحداته من 22 حالياً إلى ما قد يزيد على 30 وحدة، ناهيك عن كون علاقات الكيانات الجديدة بالدول التي انسلخت عنها ستكون بالتأكيد علاقات صراعية ولو إلى حين، كما تشير إلى ذلك خبرة انفصال جنوب السودان عن الدولة الأم في 2006 ومن قبلها بكثير خبرة الانفصال السوري عن مصر في 1961. ويمكننا أن نضيف خبرة انفراد «حماس» بحكم قطاع غزة وتمردها على السلطة الفلسطينية في 2007. بل إن الصراعات العربية- العربية قد تفاقمت بالفعل في سياق الخطر الحالي للإرهاب، إذ قد تبلورت بؤر جديدة للصراعات على خلفية اتهامات بدعم قوى الإرهاب التي تحاول زعزعة الوضع الراهن في بعض البلدان، وكذلك تبلور احتقان علاقة بين مصر و«حماس»، بسبب اتهامها بدعم العناصر الإرهابية في سيناء وتهريب الأسلحة إليها بل ومشاركة عناصر منها تتسلل إلى سيناء في القتال الدائر على أرضها بين التنظيمات الإرهابية والدولة المصرية. وكذلك التجاذب في العلاقة بين العراق والسعودية، بسبب النزوع الطائفي الواضح للحكم في العراق، وأخيراً وليس آخراً العلاقات الليبية- السودانية التي تدهورت بشدة في أعقاب اتهام الحكومة الليبية الشرعية حكومة السودان بأنها تهرب أسلحة إلى قوى الإرهاب التي تتستر بالدين بعد أن تم التحفظ على طائرة سودانية حطت في أحد المطارات الليبية على متنها أسلحة للمتمردين، مما أفضى إلى قيام الحكومة الليبية بطرد الملحق العسكري السوداني من ليبيا.

من ناحية ثانية فإن من شأن تفاقم الإرهاب على النحو السابق بيانه أن يؤدي إلى زيادة التدخل الإيراني والأميركي في العراق بصفة خاصة، وزيادة التدخل الخارجي في الوطن العربي بصفة عامة، فإيران لا يمكنها أن تفلت العراق من قبضتها بسهولة، والسياسة الأميركية المتخبطة دوماً -حتى بمنظور المصلحة الأميركية- لا يمكنها أن تبتلع مزيداً من الإهانات، وتقبل الإضرار بمصالحها النفطية وغيرها في العراق ناهيك عن مذلة الفتك بمواطنيها بطرق بشعة تنطوي -فضلاً عن مجافاتها الإنسانية- على تحدٍّ صارخ للمكانة الأميركية، وها نحن نتابع السعي الحثيث من قبل الإدارة الأميركية من أجل تكوين تحالف دولي لمحاربة الإرهاب يرفع عنها حرج الانفراد بهذا التدخل، ومن ثم يكسب حربها على الإرهاب شرعية لاشك فيها. وعلى رغم أن أي دعم خارجي لمحاربة الإرهاب، يمثل مصلحة عربية إلا أن تجاربنا السابقة مع التدخل الدولي في الشؤون العربية لا تشجع على تكراره، فليس خافياً أن أهم خبرتين لهذا التدخل في القرن الحالي قد خلفتا دولتين ضائعتين في العراق وليبيا. ولذلك فإن التحالف المطلوب لمحاربة الإرهاب يجب أن يكون عربياً، ويلاحظ أن هذه المسألة -أي التحالف لمواجهة الإرهاب- يمكن أن تضعف التماسك العربي في هذا الصدد، ذلك أن هناك دولاً عربية تقبل فكرة التحالف الدولي ودولاً أخرى قد لا تقبل ذلك.

ويتضح مما سبق أن المواجهة الفعالة للإرهاب باتت ضرورة عربية وأولوية لاشك فيها في جدول الأعمال العربي، ولعل هذا يفسر الاهتمام اللافت من قبل المجلس الوزاري لجامعة الدول العربية الذي اجتمع في القاهرة في سبتمبر الجاري في دورته 142 بمسألة مواجهة الإرهاب، وقد أصدر المجلس في هذا الصدد في السابع من هذا الشهر، قراراً لافتاً يتطلب تأملاً متعمقاً في مضمونه، ويتطلب أيضاً بحثاً جاداً في آليات التنفيذ كي يمكن لهذا القرار أن يحدث مردوداً إيجابياً في الساحة العربية على صعيد مواجهة الإرهاب على ضوء خبرتنا مع قرارات العمل العربي المشترك عامة وقرارات مواجهة الإرهاب خاصة، ولعل هذا يحتاج منا نقاشاً مستفيضاً ومعمقاً في سياق قادم، إن شاء الله.
&