من 11 سبتمبر إلى «داعش»: نحو تجاوز أخطاء الماضي

أمـــل عبـــدالله الهــدابي

في الحادي عشر من سبتمبر 2001، استيقظ العالم على وقع الصدمة التي سببتها الأعمال الإرهابية غير المسبوقة لتنظيم «القاعدة» ضد القوة الأعظم في العالم، والتي كشفت للمجتمع الدولي بأسره، وبشكل لا لبس فيه، المدى الذي وصلت إليه خطورة التنظيمات الإرهابية وما تشكله من تهديد للسلم والأمن العالميين. وبعد أن أفاق المجتمع الدولي من صدمته، بدأ ينظم جهوده وينسق مواقف أطرافه ووحداته المختلفة لمواجهة هذه الظاهرة متفاقمة الخطورة والقضاء عليها، فكانت «الحرب العالمية على الإرهاب» التي قادتها الولايات المتحدة، والتي تم من خلالها تم غزو أفغانستان واحتلالها بهدف القضاء على تنظيم «القاعدة» المتحالف مع حركة طالبان الحاكمة، قبل أن تنحرف هذه الحرب عن مسارها الصحيح ويتم توظيفها لخدمة أهداف خاصة تجسدت أوضح ما يكون في الحرب التي قادتها إدارة بوش الابن على العراق في العام 2003، والضغوط التي مارستها على الدول العربية والإسلامية المختلفة تحت شعار «محاربة الإرهاب».

واليوم، وفي الذكرى الثالثة عشرة لأحداث 11 سبتمبر، يجد العالم نفسه مجبراً على خوض حرب عالمية جديدة على الإرهاب، ولكن هذه المرة ضد تنظيم إرهابي آخر ربما يزيد في خطورته على تنظيم «القاعدة» الذي تفرع منه، والذي كان الهدف الرئيسي للحرب الأولى، وهو تنظيم «داعش»، والذي فرض نفسه بقوة على أجندة المجتمع الدولي بعدما تمكن من السيطرة على مساحات كبيرة من أراضي العراق وسوريا مستغلاً حالة الفوضى وعدم الاستقرار التي ضربت المنطقة إثر ما يُعرف بموجة «الربيع العربي»، ليكون بذلك أول تنظيم إرهابي يتمكن من إعادة رسم الخريطة الجيو-سياسية للمنطقة العربية ذات الأهمية الاستراتيجية للعالم، وأول تنظيم إرهابي يتمكن من فرض سيطرته على مصادر إنتاج النفط الخام، التي تؤمن له طبقاً لبعض التقديرات الموضوعية مصادر دخل تناهز المليار ونصف المليار دولار. كما لفت التنظيم الأنظار إليه بقوة بفضل ممارساته الموغلة في التطرف وأساليبه الوحشية في تصفية المختلفين معه عقائدياً وفكرياً، وتحديه الواضح للمجتمع الدولي الذي تجسَّد في إقدامه أخيراً على إعدام صحفيين أميركيين وأحد عمال الإغاثة البريطانيين. ولم يخفِ التنظيم رغبته في التمدد جغرافياً، فراح يبعث برسائل التهديد والوعيد للدول المجاورة، فارضاً تهديداً من نوع خاص على مجمل المنطقة العربية والعالم.

ومثلما تابع المهتمون الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن، وهو يعلن استراتيجيته للقضاء على الإرهاب «القاعدي» عقب هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001، تابع كثيرون حول العالم خطاب الرئيس أوباما الذي أعلن فيه استراتيجيته الجديدة في التعامل مع الإرهاب «الداعشي»، في اعتراف ضمني بفشل الحرب الأولى التي قادتها بلاده على الإرهاب طيلة السنوات الثلاث عشرة الماضية، فلو كانت هذه الحرب مضت في مسارها الصحيح وحققت الأهداف التي أعلنت من أجلها، لكان المجتمع الدولي في غنى عن إعلان حرب جديدة على هذا الإرهاب المقيت، الذي لا يلبث أن يختفي حتى يعود في شكل جديد أكثر تطرفاً ووحشية، ولكن ذلك لم يحدث. صحيح أن المجتمع الدولي بقيادة الولايات المتحدة نجح من خلال هذه الحرب في تحقيق بعض الأهداف المهمة، مثل القضاء على معاقل تنظيم «القاعدة» في أفغانستان وتصفية الكثير من قياداته وعلى رأسهم أسامة بن لادن، لكن ضعف وتراجع التنظيم الأم في أفغانستان قاد في المقابل إلى ظهور تنظيمات فرعية لا تقل خطورة عنه تعمل بطريقة لامركزية، مثل «تنظيم القاعدة في الجزيرة العربية» الذي يتخذ من اليمن مقراً له، و«تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي»، و«تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين»، و«جبهة النصرة»، وأخيراً تنظيم «داعش» الذي يُنظر إليه باعتباره أحد الفروع الأكثر تطرفاً للقاعدة. وقد تمكنت هذه التنظيمات الفرعية من ترسيخ مكانتها مستغلة حالة الفوضى والفراغ الأمني والاضطراب السياسي في بعض الدول العربية والإسلامية.

وليس بخاف على أحد أن الولايات المتحدة تتحمل جانباً كبيراً من المسؤولية عن فشل هذه الحرب العالمية على الإرهاب، فانحراف واشنطن بمسار الحرب وتوجيهها نحو العراق أضعف التحالف الدولي الذي تشكل لمواجهة هذه الظاهرة عقب أحداث 11 سبتمبر وأثار الشكوك حول حقيقة أهدافها من هذه الحرب، كما ساهم ذلك في زيادة نزعات التطرف والعنف في هذا البلد العربي، الذي تحول بعد الحرب إلى بؤرة للإرهاب وعدم الاستقرار في المنطقة برمتها، خاصة مع تزايد أعمال العنف الطائفية التي اجتاحته وأطلقت بدورها صراعات طائفية عبثية في المنطقة برمتها. ولا يمكن تفسير نشأة «داعش» وتطور خطورتها بمعزل عن هذه التطورات التي صاحبت الحرب على العراق، لاسيما لجهة تهميش السنة العرب وإقصائهم بشكل شبه كامل، على نحو عزز مشاعر الغضب لديهم وجعلهم يوفرون حاضنة لمثل هذه التنظيمات المتطرفة.

كما ساهم الدعم الأميركي لجماعات الإسلام السياسي خلال موجة ما عرف باسم «الربيع العربي»، في تقوية شوكة هذه الجماعات التي تتبنى في أغلبها توجهات متطرفة وزيادة نفوذها، فقد دعمت واشنطن جماعة الإخوان المسلمين معتقدة أنها يمكن أن تمثل بديلاً معتدلاً للنظم السياسية العربية المتساقطة تحت وطأة الغضب الشعبي، متجاهلة حقيقة أن معظم الجماعات الجهادية المتطرفة خرجت من تحت عباءة الإخوان، وأن فكر هذه الجماعة المغلف بالاعتدال يحمل في جوهره الكثير من أفكار العنف والتطرف، وهو أمر أكدته الأحداث الأخيرة في مصر بعد الإطاحة بحكم الإخوان المسلمين، وربما تكون واشنطن قد أدركته ولكن متأخراً.

قد تبدو الظروف الإقليمية والدولية الراهنة مهيأة لتحقيق النجاح المنشود في الحرب على الإرهاب، ليس فقط الإرهاب الذي يمثله «داعش»، ولكن أيضاً كل التنظيمات التي تتبنى الفكر المتطرف، فهناك حالة واسعة من الاستنفار الإقليمي والدولي ضد هذه التنظيمات المتطرفة، شبيهة إلى حد كبير بتلك التي سادت عقب هجمات 11 سبتمبر، وهناك تحالف دولي جديد يتشكل ضد الإرهاب، أعلنت أكثر من أربعين دولة عن رغبتها في الانضمام إليه، وهناك اجتماعات إقليمية عربية ودولية تُعقد لبحث خطط مواجهة التنظيمات الإرهابية، وهذه كلها مؤشرات إيجابية، لكن الأكثر أهمية من ذلك هو أن يتم التعلم من أخطاء الماضي بحيث لا يتم تكرار هذه الأخطاء، وفي مقدمتها عدم الاعتماد فقط على الأساليب الأمنية، وتبني خطط تنموية وثقافية وسياسية شاملة لمواجهة الظاهرة من جذورها وليس فقط معالجة الأعراض، والتنسيق الكامل مع الدول العربية المعنية، فهي أدرى بمشكلاتها وكيفية ومواجهتها. من دون ذلك سيكون مصير الحرب على «داعش»، مثل مصير الحرب على «القاعدة».
&