يوسف مكي

الأمن العربي لا يهدده "داعش" فقط، وإن اقتصر الحرب على الإرهاب بالهجوم على "داعش" دون غيره من التنظيمات؛ فإن ذلك سيوسع دائرة الحركة لهذا التنظيم بدلا عن تقليصها

&


تصريحان مهمان، أطلقتهما شخصيتان مصريتان، الأول لوزير الخارجية المصري سامح شكري، والثاني للأمين العام السابق لجامعة الدول العربية، ورئيس اللجنة التي أشرفت على صياغة الدستور الحالي السيد عمرو موسى. وكلا التصريحين لهما علاقة مباشرة بالحرب الكونية التي على "داعش"، التي يزمع شنها في الأيام القادمة بقيادة الولايات المتحدة الأميركية. تصريح وزير الخارجية المصري سامح شكري أكد تمسك حكومة بلاده باستراتيجية شاملة للحرب على الإرهاب، وألا تكون الحرب موجهة فقط ضد تنظيم داعش. أما السيد عمرو موسى، فطالب باستراتيجية إقليمية لمواجهة الحرب على الإرهاب.


في يقيني أن التصريحين انطلقا من أرضية واحدة، هي الحرص الشديد على الأمن القومي العربي. فليست "داعش" وحدها، من وجهة النظر المصرية، ما يهدد الأمن الوطني والقومي للأمة. والأساس في محاربة الإرهاب أن وجوده هو تهديد للأمن القومي العربي، وتهديد للسلم والاستقرار العالمي.


الإرهاب سلوك عدواني لا يقبل التعايش مع الآخر. والآخر بالنسبة للتنظيمات المتطرفة هو كل من يختلف معها في الأفكار والتوجهات. ومن هذا المنطلق تأتي تصريحات وزير الخارجية المصري، بأن تحقيق الأمن والاستقرار في بلادنا العربية ليس رهنا بالقضاء على فصيل دون غيره من التنظيمات، فمعظم هذه التنظيمات هي إفراز تنظيم القاعدة، الذي هو في المحصلة نتاج واقع تاريخي، من حيث أفكاره، أو من حيث البيئة التي احتضنته.


تنظيم القاعدة، إذن هو الأصل في الإرهاب المعاصر. وقبله كانت أفكار أبي الأعلى المودودي، في ضرورة الهجرة من بلاد الشرك، وتأسيس دار الإسلام. وجاء سيد قطب فيما بعد، ليتبنى حرفيا رؤية المودودي حول التكفير والهجرة، والحاكمية. وليستتبع ذلك تفريخ سريع ومتتابع لتنظيمات إرهابية، أدت أنشطتها لمصرع العشرات في مصر، وتفجير للقاطرات والحافلات. وسع تنظيم الإخوان محيط عمله ليشمل بلدانا كثيرة. وفي أفغانستان، تحققت نقلة أخرى على طريق إيجاد نموذج سياسي متطرف، لطريقة إدارة الدولة والمجتمع، قادته حركة طالبان، وتزامنت بتصاعد دور تنظيم القاعدة، في المرحلة التي أعقبت سقوط النظام الشيوعي.


عندما شنت الحرب العالمية على الإرهاب، بعد حوادث 11 سبتمبر 2011 بالولايات المتحدة، وجرى احتلال أفغانستان، قام تنظيم القاعدة بمراجعة لأسلوب عمله في المرحلة التي أعقبت سقوط أفغانستان، وتبنى استراتيجية جديدة تكونت من عناصر ثلاثة. الأول: التكور في الأماكن التي يجري فيها الهجوم العسكري المباشر على قواعده، والثاني: الهروب إلى الأمام، بالتوسع في أنشطته في أماكن وبلدان لم يكن له فيها وجود من قبل، كما هو الحال في العراق بعد احتلاله وكما في ليبيا وسورية بعد اشتعال ما عرف بالربيع العربي.


وكان التنظيم قد حط رحاله، بشكل واضح في اليمن، وحقق نقلة كبيرة في نشاطاته، بتفجير المدمرة الأميركية كول. أما في بلدان المغرب العربي، فقد تمكنت السلطة المغربية من احتواء محاولات تشكيل خلايا إرهابية تابعة للقاعدة، لكن ذلك لا يعني قضاء مبرما على أنشطته فيها. وفي الجزائر عاشت الحكومة صراعا مريرا مع التنظيمات الإسلامية المتطرفة المختلفة، بعد صراع المؤسسة العسكرية مع جبهة الإنقاذ، تسببت في مصرع ربع مليون قتيل. والأمور في الجزائر لا تزال حبلى بمفاجآت، قد لا تحمد عقباها. أما العنصر الثالث، في استراتيجية تنظيم القاعدة، فيما بعد أفغانستان، فهو فتح فروع بمسميات مختلفة، وباستقلال نسبي عن المركز، الذي مثله أسامة بن لادن سابقا، ولاحقا أيمن الظواهري. وبقاء كل التنظيمات في الجوهر، ملتزمة بذات الأفكار التي انطلق منها تنظيم القاعدة. والتسميات في هذا السياق كثيرة.


إن الإرهاب قد فرخ في معظم بلدان الوطن العربي، فهو الآن يوجد في العراق وسورية ولبنان ومصر والأردن وتونس وليبيا والجزائر والمغرب وموريتانيا والسودان، ومن غير أن نسمي الصومال، الذي كان له سبق استقبال عناصر هذا التنظيم المتطرف.


الأمن القومي العربي لا يهدده تنظيم داعش فقط، فمصر على سبيل المثال، لا تواجه بشكل مباشر، تنظيما يحمل هذا المسمى، بل تعاني من تنظيم القاعدة بمسمياته المختلفة. والقيادة المصرية التي شاركت في اجتماعات التحالف، ربما تشعر ببعض الضيق، كون أمنها الوطني لم يكن مطروحا جديا على الطاولة، إنما أمن المناطق الكردية شمال العراق، وبعض المحافظات العراقية، ذات الصلة المباشرة بالمصالح الأميركية.
والحال هذا ينسحب أكثر على أوضاع اليمن وليبيا. والبلدان يتعرضان الآن لعملية تفتيت. ففي ليبيا انهارت الدولة. والحكومات التي شكلت غير قادرة على الاطلاع بمسؤولياتها، بسبب تصاعد دور الميليشيات المتطرفة بمسمياتها المختلفة، التي تتبع لتنظيم القاعدة.


الحرب على الإرهاب، ينبغي أن تكون شاملة، ولا تستثني بلدا عربيا دون آخر. إن ذلك سيخلق إحساسا مريرا، لدى إخوتنا في ليبيا واليمن ومصر، بأن أمنهم ليس في المقدمة، وأن هناك انتقائية، وكيلاً بمكاييل مختلفة، تغض الطرف عن مشاريع التفتيت في المنطقة، المشاريع التي ارتبطت بالربيع العربي.


والنتائج ربما تكون أخطر من ذلك بكثير. فليس هناك ما يمنع "داعش"، في حالة تعرضه لهجمات جوية كبيرة ليس بمقدوره احتواؤها؛ أن يوجه قواعده لمناطق مجاورة، هربا من القصف الجوي، كما حدث عام 2001، حين شنت الطائرات الأميركية هجماتها المكثفة على قواعد القاعدة في أفغانستان، فكان أن رحل معظم كوادرها إلى باكستان، ولتغرق هذه البلاد في فوضى عارمة، لا تزال مستمرة، رغم مرور 13 عاما على الهجوم الأميركي على أفغانستان.
إن توقف الحرب على الإرهاب، بالهجوم على "داعش" دون غيره من التنظيمات الإرهابية، من شأنه أن يوسع دائرة حركة هذا التنظيم بدلا عن تقليصها، ويبقى السؤال قائما عن حواضنه الاجتماعية. فالأماكن التي توجد فيها حواضن اجتماعية أكبر، ستكون هي المؤهلة أكثر لاستقبال "داعش" بعد الهجمات الجوية المكثفة على قواعده.
وتبقى نقاط أخرى جديرة بالقراءة والتحليل في حديث آخر بإذن الله.
&