نوال السعداوى

&

&

&

&
مسار الحضارة البشرية أصبح معوجا، يكفى أن نتأمل ما يحدث فى العالم لندرك الإعوجاج فيما نسميه الحضارة الغربية والشرقية،

وهما حضارة واحدة تستمد قيمها وثقافتها من تاريخ واحد، وعقلية غير سوية، تم تشكيلها فى طفولة البشرية منذ بضعة آلاف من السنين، غيرت مسار التطور الطبيعى لعقل الإنسان.

وكان العقل فى الحضارة المصرية القديمة أكثر استقامة مما هو اليوم، يكفى أن نتأمل حياة المرأة حينئذ، المساوية للرجل فى جميع المجالات العامة والخاصة، لندرك الهوة التى سقطت فيها الحضارة مع سقوط المرأة.


لم استمد معرفتى بالحياة والناس من الكتب المدرسية، بل من تجاربى فى حياتي، وقراءاتى خارج المقرر والتاريخ الرسمي، فالتاريخ كالقانون لا يكتبه إلا الأقوياء الغلظاء، فى ظل حكم الولايات المتحدة حتى اليوم (عام 2014) يقع الظلم الاقتصادى والجنسى على الأغلبية الساحقة من الشعب الأمريكي، أغلبهم النساء الكادحات وابناؤهن وبناتهن، يكفى أن نتأمل الوجوه فى المظاهرات الغاضبة فى نيويورك وميزورى وأطلانطا وكاليفورنيا وغيرها، لنرى أن أغلبها نساء سوداوات وأولادهن وبناتهن.


لم يغير رئيس الدولة (الأسود البشرة) من مسار الحضارة العنصرية الطبقية الأبوية فالرؤساء والملوك لا يغيرون مسار الحضارة أو القيم والثقافة، بل يدعمون النظام القائم على الحرب والاغتصاب والخداع، الذى أوصلهم للحكم.


ويكفى أن نتابع السياسة اليوم، خاصة الأمريكية الأوروبية الإسرائيلية، لندرك فساد الحضارة، لا يغير مسار الحضارة إلا الإنسان المبدع الصادق الذى يكتشف الجديد وينزع النقاب عن الفساد، كالطفل الذى رأى عورة الحاكم وصاح »الامبراطور عريان« رغم أن الكل يتغزلون فى ثيابه القشيبة، كالصبى ابن الحداد، الذى اكتشف الكهرباء، بعد أن تأمل حركة ذرات الحديد فى دكان أبيه، كالإنسان المتأمل لثمرة تسقط من الشجرة إلى الأرض فاكتشف الجاذبية.


نعيش ونموت دون أن نتأمل بعيوننا أو نفكر بعقولنا، نرى بعين السلطة الأعلى ونقلدها كالقرود، نتبع الاسلاف والتقاليد كالقطيع، لا نهتم إلا بالمناصب الرئاسية والمقاعد البرلمانية، لا ندرك أن مسار الحضارة والثقافة والقيم لا يتغير بالرؤساء أو البرلمانات، تمر بنا الأحداث الاجتماعية الخطيرة دون أن نهتم، نفصل بين السياسة وأحوال الملايين العادية قرأنا عن الأم الصغيرة، التى ذبحت طفلتيها، وفشلت فى ذبح نفسها فلم نتوقف لنتأمل الحادث، نلهث وراء أخبار الأحزاب والانتخابات، كانت فتاة مقهورة، يضربها أبوها بغلظة ليفرض عليها زوجا أكثر غلظة لا يكف عن ضربها كأبيها، يستغلها اقتصاديا كالعبدة، ويغتصبها جنسيا بطريقة مقززة (كما وصفت الصحف) كانت تلجأ لأبيها فيضربها لتعود لزوجها، خمس سنوات عاشتها فى الجحيم وانجبت بنتين، لم يتوقف زوجها عن ضربهن الثلاث (الطفلتين وأمهما) كان يريد ابنا ذكرا حسب الثقافة والتقاليد، فاض الكيل بها فانتحرت مع طفلتيها.


قالت للمحقق انها تأكدت من حدة نصل السكين حتى لا تشعر طفلتاها بألم عند ذبحهما، وذبحت نفسها بالنصل نفسه، لم يفكر المحقق فى إدانة الأب أو الزوج، بل ادان الأم، المقتولة آلاف المرات، وكانت هى المدانة منذ ولدت بنتا، ومنذ أنجبت البنتين، انها الحضارة والثقافة الطبقية الأبوية وقانونها السائد فى جميع بلاد العالم، الضحية والأبرياء يحبسون لمجرد انهم الضعفاء، ويطلق سراح الأقوياء أقطاب الاستبداد والفساد.


وفى »البرازيل« التى بدت كالشمعة المضيئة أو الأمل فى تغيير مسار الحضارة البشرية، سقط كبار مسئوليها فى عمليات نهب الأموال مع شركة أمريكية للبترول، وأصبح احتمال تأجيل الانتخابات الرئاسية فى البرازيل هو القضية الأولى التى تشغل العالم.


السرقة والنهب والقتل والفساد أمور عادية فى الحضارة الحديثة، ما هو غير عادى وغير مقبول هو تأجيل الانتخابات (رئاسية أو برلمانية) أصبحت الانتخابات هى البقرة المقدسة فى النظم الرأسمالية الديمقراطية المزيفة. ونشهد فى بلادنا اليوم حمى الاستعداد للانتخابات البرلمانية، الأحزاب السياسية القديمة والجديدة تدور حول نفسها، وأقطاب الفساد فى العهد السابق والأسبق يتجمعون، والمناورات والتآمرات وتجميع المليارات، وتأليف التحالفات بين أقصى اليسار الشيوعى وأقصى اليمين الرأسمالى والسلفى الديني، تشتعل حمى الانتخابات للقبض على المقاعد، ويتم التضحية بحقوق النساء والأطفال والفقراء، من أجل التضامن مع الأقوياء ذوى الأموال والنفوذ، أليس هو قانون الحضارة الطبقية الأبوية العالمية والمحلية؟

&