حميد المنصوري
&
في إحدى المحاضرات الأكاديمية حول مناهج البحث، طرحت أستاذة سؤالاً على طلبة الدراسات العليا، لماذا نسمي الأشياء الخارجة عن القانون أو العرف الاجتماعي بالسوداء، كالقائمة السوداء والسوق السوداء؟، ولم تجد إجابة مما دفعها بأن تقول، هل أنتم طلبة دراسات عليا، الإجابة الصحيحة ستنهي المحاضرة وإلا سوف تستمر المحاضرة إلى أطول مدة ممكنة!
&
وكانت الإجابة من أحد الطلبة بأن المقصود هو ما يحملهُ اللون الأسود من غموض وعدم القدرة على الرؤية والإبصار لما حول الإنسان، وهذه الحالة تقود إلى خلق حالة من الشك والخوف لدى البشر، مما دفع بعض المجتمعات على تسمية الأشياء والأعمال الغامضة والخارجة عن القانون والعرف بالسوداء، وأضاف الطالب بأن المصطلح موجود في لغات عدة وليس له علاقة بالبشر ذوي البشرة السوداء، وهنا انتهت المحاضرة ويبدأ طرحنا من هنا.
&
من منطلق الغموض والرهبة والخوف، ففي وقتنا المعاصر، الوطن العربي أصبح يعيش في ليل أسود مخيف، فقد أصبحت سماؤهُ الغارقة في الظلام الأسود يعلوها أقمارٌ دامية، وهذه الأقمار الدامية تأخذ صبغة الدم من انعكاس صراع الهويات العرقية والإثنية والدينية فيه. فوطننا العربي لم يكن في حالة متماسكة قبل حال اليوم، بل إن النظام الإقليمي العربي الذي يرجع أساسه إلى الشعور بالقومية العربية، حيث البداية كانت بإنشاء الجامعة العربية 1945 التي انضمت إليها الدول العربية قاطبة عند حصولها على الاستقلال، يعتبر نظاما هشاً رغم أن النظام الإقليمي العربي يجمع دولاً عربية متصلة جغرافياً ما عدا الصومال وجيبوتي وجزر القمر.
&
وذلك مدلوله واضح، فليس للنظام العربي سياسات موحدة تجاه الأمن القومي العربي، بل هناك حلقات صراعية بين الدول العربية نفسها، على سبيل المثال، الصراع بين الدول العربية الجمهورية والملكية في الفترة الممتدة من 1952 إلى 1970 والتي تُعرف في الحقل السياسي بالحرب الباردة العربية، ناهيك عن خلافات عربية متعددة، كالخلافات العربية الحدودية، والخلاف حول الزعامة العربية، والاختلاف الأيديولوجي والسياسي وعقدة البعد التاريخي لمراكز حضارية عربية، والانقسام العربي حول احتلال الكويت، وتحول الصراع العربي الإسرائيلي إلى فلسطيني إسرائيلي فيه الفرق الفلسطينية متصارعة في ما بينها، وليس لوحدة الأمن القومي العربي أي حضور بسبب عدم وجود وحدة للخطر القومي، وأيضاً لكون الوطن العربي فقيراً إلى وجود سياسات الحد الأدنى من التضامن السياسي والأمني.
&
شبح التقسيم والتفتت
&
الليل العربي اليوم أصبحت أقمارهٌ دامية تشكل حالة من الرعب والخوف من فجر الغد القادم، والذي ربما يُنير على تقسيم الخريطة العربية عبر ظهور دول جديدة هشة وضعيفة ومتصارعة. فالعراق وسوريا حالة واضحة ليس من خلال احتمال انقسام العراق إلى ثلاث دول كردية وشيعية وسنية ممتدة داخل سوريا، بل الأمر أبعد من ذلك وأدهى حيثُ لو أن شيعة العراق في الجنوب توسعوا إلى مناطق أخرى كالتوسع باتجاه شيعة عربستان في إيران «الأهواز» عبر امتداد شيعي عربي، وهذا يقود حتماً إلى تفكك إيران عبر قوميات أخرى كالفارسية والكردية والبلوشية التي ربما تضم أجزاء من باكستان وإيران، وهذا يعتمد على من يقود إيران؟ فإيران واقعة تحت نفوذ ديني شيعي، للعرب الشيعة فيه طموحات إقليمية بين إيران والعراق بجنوبهِ الشيعي.
&
فتصور معي هذه الحقيقة، بأن نسبة الشيعة من عرب الأهواز بإيران الذين يتحدثون بلهجة عراقية عربية أعلى من نسبة الشيعة من العرق الفارسي! مع استثناء لعرب الموانئ الشمالية السنية التي تتحدث اللهجة الخليجية القريبة منها! وبين الشيعة أنفسهم من يقول بأن تشيع الفرس تشيع براجماتي وليس عقائدي صرف!
&
فرضية تمدد جنوب العراق الشيعي إلى إيران تحت الدولة الشيعية العربية تقود إلى حتمية وجود دولة أو دول تردع هذا الكيان الافتراضي بمنظور عربي سُني، وهذا ربما يحدث من قبل دول الخليج الأقرب جغرافياً، وحدوث ذلك سيجعل تجمعات بشرية معينة تهاجر من العراق إلى دول أخرى ومن دولٍ متعددة إلى العراق بما يفرضهُ الانتماء المذهبي كما هاجرت التجمعات اليهودية من البلدان العربية عندما أنشأت إسرائيل.
&
ما زلنا في وضع العراق، فالأكراد سيتجهون إلى دولة كردية بقوميتهم المتمددة نحو تركيا وسوريا وإيران في ظل توفر حالة من الفراغ والانفلات الأمني، وستبحث هذه الدولة على إطلالة بحرية في الأراضي السورية لأنها حبيسة «غير مطلة على بحر ما». كما أن سوريا ربما تتجه إلى دويلات من دويلة للسُنة المتعصبة وأخرى ربما تأتي من العرق الفينيقي تجمع أجزاء من لبنان وسوريا، كما قد يحدث ذلك مع الدروز، وقد تعود سوريا كدولة حاضنة لهوياتها وأعراقها.
&
وإلى مصر، يبدو اللعب بخريطة الإقليم عصية، لكون مصر حاضنة بصورة كبيرة لكل أعراقها وأديانها، ولها بعد في تاريخ الشرق والوطن العربي والإسلامي الذي تبلور في قومية خاصة به. رغم ذلك، فهناك طرح لدولة النوبة من الناحية الجغرافية والديموغرافية حيث يمكن حدوث تكامل انضمامي بين الجزء الجنوبي الممتد من صعيد مصر حتى شمال السودان لتكوين بلاد النوبة وعاصمتها أسوان. حقيقة قابلية حدوث ذلك يعتمد على تساؤل مؤداه: هل سكان النوبة منصهرون في القومية المصرية؟، وهل لهم دوافع قومية وفكرية؟. جدير بالذكر بأن انقسام السودان إلى شمال مسلم وجنوب مسيحي لن يتكرر في مصر بسبب الديموغرافية السكانية والقومية المصرية كبوتقة لكل مكونات الشعب المصري.
&
الوطن العربي ليس به اكتشافات في الموارد الطبيعية كالنفط والغاز وحسب، بل اكتشافات عرقية، فها هي بلاد المغرب بها حراك يعبر عن القومية الأمازيغية والتي لها توجهات سياسية غامضة، فماذا اكتشف الأمازيغ، هل اكتشفوا أنهم ليسوا عرباً؟، وكيف فهموا بأن العالم العربي محصور بالعرق العربي فقط، ألم يشاركوا في الحضارة العربية والإسلامية؟، وفي ساحة بلاد المغرب العربي تتزاحم الأقدام الدولية الداعمة لجبهة البوليساريو الساعية منذ 1973 إلى تحويل الصحراء الغربية إلى دولة مستقلة عن المملكة المغربية، وهناك أقدام دولية تسري ليلاً في ملف حركة الطوارق الانفصالية!. فالوطن العربي مكون من أعراق وأديان وطوائف متعددة غلب الدين الإسلامي فيها وسادت على الألسن وحروف الكتب اللغة العربية. والأمثلة كثيرة حول تجزؤ المنطقة العربية فهاهي اليمن يهددها حركة «الحوثيين» و«القاعدة» و«الحراك الجنوبي» الانفصالي.
&
من وراء التمزيق؟
&
من وراء هذه الأقمار الدامية، هناك أسباب لظاهرة تمزيق خريطة الوطن العربي، تتجلى بصراع الهويات في الوطن العربي والشرق الأوسط وهي لا تقبل الجدال، فهي نابعة من غياب الأيديولوجية كالاشتراكية الجامعة للنسيج الاجتماعي والقومية العربية المُعرِفة لهوية الذات تجاه الأمم والقوميات الأخرى، وأيضاً غياب المشاركة السياسية في محيط الوضع الداخلي للدول العربية، كما أن هناك دولاً بذاتها تقف كمحرك وداعم لتمزيق خريطة الوطن العربي.
&
حقيقةً هناك دول إقليمية ودولية تقف مع الولايات المتحدة في عملية إعادة رسم الشرق الأوسط عبر خريطة ما، تارة يقال عنها الشرق الأوسط الكبير وتارة يطلق عليها خريطة الدم أو خريطة أخرى واشنطن لا تعلم كيف ستكون وما هي النتائج المترتبة عليها في المنطقة، وما أثر ذلك على الأمن الدولي بمنظور الفوضى الخلاقة.
&
ويبدو أن واشنطن أصبحت تتعامل مع المنطقة العربية والشرق الأوسط ليس من خلال دولهِ وحسب بل من خلال الهويات الاجتماعية التي تخلق الدول، وهنا فهي إذ تتعامل أو تدعم هذه الهويات فهي تهدم أسس بعض الدول، فدعم هوية ما يولد أخرى إما بظاهرة المثل أو الضد، وهذا الدور في التعامل مع جماعات دينية وقومية وعرقية ومذهبية يتم في إطار الفاعلين دون مستوى الدولة، والذين يسعون إلى تشكيل دول أو أشباه دول أو تغيير الأنظمة السياسية.
&
وهل أمنت الولايات المتحدة والدول الغربية بأن الأقمار الدامية هذه لن تدخل سماءها ولو بعد حين! فها هي الدموع تنهمر من عيون البريطانيين على احتمال انفصال أسكتلندا في الاستفتاء الجاري، فمن سيمسح تلك الدموع!
&
وهناك سبب كامن في بعض الدول العربية وهو الفشل في خلق الدولة القومية أو تحقيق نظام سياسي عادل يعبر عن شرائح المجتمع، ويسعى إلى تحقيق مطالب كالعدالة والحرية والأمن العام والخاص والخدمات المتعددة من السياسة العامة، والمثال الصارخ ليبيا التي ليس بها صراع مذهبي أو قوميات متناطحة، رغم ذلك تعتبر دولة فاشلة في خلق الدولة العصرية فهناك القبائل وهوية المناطق تتصارع لمكتسبات سياسية كأنها هويات مختلفة ويزيد هذا الصراع التيار «الإخواني».
&
فبروز الصراعات العرقية والدينية في الشرق الأوسط ظاهرة تعبر عن كون هذه الهويات تريد أن يكون لها كيان أو مكتسبات سياسية، لأنها ترفض الانصهار في الدولة التي لا تعبر عنها، أو لأنها من منطلقات تاريخية أكثر اختلافاً عن الدولة الأم من محور اللغة والدين والعرق، أو لأن العقيدة الدينية المتعصبة أصلاً تتصادم مع الولاء القُطري وتظن بأنها موجودة بدور حتمي وهو خلق كيان ديني باسم الرب. وفي الدين كثرت التشوهات واللعب بالفتاوى والتشريع حتى غدت كأنها هويات متصارعة تثير الاشمئزاز والرعب بدلاً من الطمأنينة.
&
فتلك العيون الناظرة تتراءى لها الأقمار الدامية في ليلنا العربي بعيون جاحظة قد تباعد فيها الجفنين لأكبر حيز للعين مع بروز شكل العين المعبرة عن الاندهاش والخوف، وعيون أخرى مفترسة انكسر جفنها الأعلى إلى الأسفل وزاد تحديقها كأنها عين صقر يوشك الانقضاض على فريسته، وبين تلك الأعين، عيون قلما يغمض صاحبها محاولاً أن يجد في الغد العربي إصلاحاً واستقراراً.