نسيم الخوري
&
لأنّ "داعش" وقعت في شباك العولمة.
&
شكّلت الصور الثلاث أمراً وبلاغاً "عسكرياً" رقم واحد من الرأي العام الأمريكي إلى القيادات الأمريكية والدولية التي انصاعت لقوّة الصور التي لا يمكن للناس تحمّلها من دون المطالبة بإلغاء "داعش"، وحسر اللثام عن إسلاميين حاملي السيوف وأجهزة الخليوي يلعبون بها متباهين ليبلغوا أقاصي الأرض عبر مواقع التسلية والتحدي . صور فظائعهم فوق هاتف محمول لا يساوي ثمن مواد صنعه من شرائط وبلاستيك وزجاج أكثر من دولارين بينما مردوده الدموي والثقافي والمالي والبترولي والحضاري لا يمكن تقديره إذ يتجاوز طاقات الأنظمة والحكام واستراتيجياتها التقليدية . صورتا نحر صحفيين أمريكيين ثم عامل إغاثة إنجليزي إمعاناً في العنف الكيدي والتحدّي وقّعت قرار التحالف والحرب السريعة لكسر ظهر البعير التكفيري لكنّ النهايات تبقى أو تترك مرهونة بالميادين . فالمصطلحان Beheading وdecapitation بمعنى فصل الرأس عن الجسد اجتاحا الرؤوس والنصوص والشاشات في العالم، وأنضجا قوة الرأي العام العالمي وسلطاته بسرعة قياسية هائلة فاقت سرعة ظهور "داعش" من دون جهود واستراتيجيات كبرى مألوفة، وإلاّ خطر انهيار حكومات وسلطات بدا ماثلاً!
&
لا حاجة لتكرار الخلفيات والتحليلات المتناقضة والفوضوية في تصرف الدول الكبرى والصغرى والأكثريات والأقليات حيال المشاهد الدموية العاصفة المرضية التي أمعنت فيها "داعش" وتوّجتها بمشاهد الجلد وقطع الرؤوس والصلب . الأسباب كثيرة أقلّها أن الغوص في مؤلفات الطبري مثلاً وابن الأثير أو العودة إلى الحجاج الثقفي في العراق وزياد ابن أبيه والهنود الحمر والثورة الفرنسية التي تعني 400 سنة في العنف يرمينا من دون دروس مفيدة في تاريخ حافل بقطع الرؤوس بالسيف أو بالمقاصل وبالشنق والرمي بالرصاص والحقن بالسم أو بكراسي الكهرباء . تاريخ يأخذنا بأيدينا نحو الرومان الذين كانوا يحسرون عن القسم العلوي للشخص المدان، ويروحون يجلدونه بعدما يربطون يديه حتى يتحول إلى كتلة مشتعلة يصار إلى تثبيتها بالمسامير فوق خشبتين بشكل صليب فيفارق معلّقاً حتى يتعفن جسده وتجتاحه الطيور الكاسرة وتستوطنه الحشرات . وكان الرومان يسقون المدان المصلوب كل ما يخفف من آلامه حتّى يفقد الإحساس فيؤجّلون موته بهدف مضاعفة عذابه .&
&
من يتصفّح موسوعة "قصّة الحضارة" ل"ويل ديورانت" يجد بيلاطس البنطي الذي كان يوعز بتهشيم قوائم المصلوبين حتى لا تبقى جثثهم مرفوعةً فتلوّث بروائحها سبوت الفصح حسب الشريعة اليهودية وفقاً ليوحنا 31/،19 إلى ما هناك من أصناف التعذيب تدفعك إلى استبدال حرف الضاد بحرف القاف في الموسوعة لتسمّيها "قصة الحقارة" بدلاً من "قصة الحضارة" .&
&
هذه الألوان القاسية من ألبومات التاريخ البشري العنيف مختلطة مع الألوان المعاصرة "الداعشية" وأشباهها بتنا نقرأها ونسمعها ونشاهدها منبوشةً أو جاهزة، في المقالات والتحليلات والنصوص والكتب والأفلام السريعة وهي بمتناول الجميع صغاراً وكباراً . تلك ظاهرة بمنتهى الخبث والخطورة عندما يختلط ما يفعله إرهابيو اليوم مع ما يحفل به التاريخ الواقعي أو الأفلام الخيالية إذ يخفّف من قساوة التوحش الذي ألمّ اليوم بأرض الشام والعرب بشكلٍ مفتعل أو بشكل سادي غير مقصود . لماذا؟ لأنّ العيون والأذهان والنفوس إذ تتشبع بمشاهد العنف الراهن تأوي إلى التاريخ للنكاية والحماية أو للتخفيف من هول المشاهد المستعصية .
&
لا حاجة أيضاً لاستهلاك الحبر في إيراد الوقائع والأسباب والخلفيات التي دفعت مجموعة تكفيرية إلى قلب صورة الواقع الإسلامي والعربي في بلاد الشام في وقتٍ قصير، بلغ ذروة تحدّياته للمسلمين في أمرين: الأول عندما تجرّأ ملثم "داعشي" أشقر على إعلان "دولة الخلافة" وإعلان نفسه خليفة لجميع المسلمين في العالم، وثانياً عندما هدّد في 5 يوليو/ تموز 2014 بصوته وصورته من لا يبايعه الخلافة بقطع الرأس . هذا تحدّ قوي آخره كان سنة 756 أي قبل 13 قرناً بإعلان عبد الرحمن الداخل دولة الأمويين في الأندلس ملقباً نفسه بخليفة قرطبة بدلاً من لقبه الأول أمير قرطبة . لقد بلغ الإرهابيون "القمم" في ممارسة العنف والتنظير له . يكفي المرور بنقرة إصبع في منتدياتهم حيث ترتفع العين الصادقة على ملاحم جهادهم في "دولة الخلافة" في القرن الواحد والعشرين لتقرأ ما يوقف شعر الأبدان في أحكام النحر وقطع الرؤوس في الإسلام . لقد وصل الأمر بهم إلى نحر جوهر الدين عندما تجرأوا على الكتابة والنشر مثلاً: "لقد كثرت الأحاديث عمّا يفعله الأخوة في تنظيمات القاعدة وجيش أنصار السنة في بلاد الرافدين من ضرب الرقاب وقطع الرؤوس . وكثر الخلط واللغط في هذا الأمر حتى أصبح كل . . جاهل يحقد على المجاهدين والعقيدة والصحبة فيدلي بدلوه بأن الذي نفعله وحشية وليس فيه من الإسلام بشيء . ألم يعلم أنه باعتراضه هذا قد إعترض على كلام الله تعالى المنزل من فوق السموات السبع . ." . لقد تجاوزوا سلّم بابل وهم يشحنون الرأي العام الإسلامي والعالمي بالنصوص والأفعال المتجاوزة لكلّ خيال .
&
فات التكفيريون أنّهم "دولة خلافة" لكنهم في عصر العولمة . يمكنهم اللعب بالسيوف ويمكنهم قطع الرؤوس وجلد الأبرياء أو تفجير سدّ الموصل تحقيقاً للطوفان الثاني في أرض الشام وكأنّهم يتطلعون إلى التماهي بنوح الذي وجد النعمة في عيني الرب إذ أمره الله بالسفينة بعدما تفاقم شرّ الإنسان على الأرض وكان لا بدّ من محو الشرور عن الأرض بالطوفان الذي دام عاماً كاملاً . فاتهم أنّ الشاشات التي أتقنوها بالخبرة لا بالمعرفة، ولهوا بصورها ولعبوا بها مثل الأطفال المتوحشين أصابتهم في الصميم كما أصابت كلّ الدول والأجهزة والجهات والاستراتيجيات التي تحالفت أو تتحالف معهم أو تستفيد منهم، وهدّدت بكشف الأغطية للرأي العام وسقوط الأنظمة .
&
كان يمكن لأوباما ربّما ولكل رئيس دولة أو مسؤول غربي أو شرقي أن يشيح ببصره عن ملايين الصور الوحشية الحيّة أو التاريخية، وهذا ما حصل ويحصل، لكن صور النحر "الداعشي" لغربيين في عصر العولمة ولّدت رأياً عاماً غربياً لا يمكن تخطيه أو تجاوزه أو فرطه مهما تقاطرت الأسباب والذرائع حيث لم يعد يمكن لأوباما ولغيره إلاّ القفز من فراشه فلا يخلد إلى النوم قبل نحر "داعش" التي انتحرت في صور الهواتف المحمولة وهزّت معها كراسي الحكّام ليلتحقون بالرأي العام وأسقطت كلّ النظريات المعلوكة التي نجترها في الجامعات بحثاً عن صناعة الرأي العام المقيم في أجهزة الخليوي والمقرر للحروب.