ترسل إيران إشارات عديدة تدلّ على امتعاضها من عودة أمريكا الى العراق توحي بانتهاء زواج المصلحة الذي قام بين البلدين مع دخول كتائب مشاة المارينز الأولى الى أرض الرافدين، ويذكر الكثيرون صورة أحمد الجلبي، الذي كان آنذاك أهم شخصيات المعارضة العراقية النافذة الأثر لدى البنتاغون و»السي آي إيه» (ولاحقاً لدى إيران)، ممتطياً إحدى الدبابات الأمريكية وراقصاً «الهوسة» مع رجال عشائر الجنوب، وصولاً لتأسيسه لاحقاً ما يسمى «البيت الشيعي» في انحناءة ذات مغزى عن تغيّر السادة وصعود نفوذ إيران التي انقلب تحالفها الموضوعي مع واشنطن، مع الانسحاب الأمريكي عام 2011، الى سيطرة هائلة على كل منافذ القرار العراقي.
التصريحات الإيرانية جاءت من أعلى مستويات القرار السياسي، بدءا من آية الله علي خامنئي، الذي فضح المحاولات الأمريكية التي طلبت من موافقة ايران على التنسيق معها في الحملة ضد تنظيم «الدولة الإسلامية»، ثم توالت الردود المتناغمة من جناحي «الاعتدال» و»التطرّف» المحسوبين على القيادة الإيرانية، حيث أكّد محمد جواد ظريف، وزير الخارجية الإيراني أمس رفض بلاده التنسيق مع أمريكا، فيما خرجت، في الأيام القليلة الماضية، ميليشيات عراقية عديدة لتزيد في طنبور الرفض الإيراني نغمة عراقية مهددة، بدءا من تصريحات «كتائب حزب الله – العراق»، مروراً بـ «عصائب أهل الحق»، ولن تنتهي طبعاً بتصريحات مقتدى الصدر، التي بثّت على الموجة نفسها.
لكن الوقائع على الأرض، لا تتشابه بالضرورة مع التصريحات السياسية، ففي معركة تخليص مدينة آمرلي من حصار تنظيم «الدولة الإسلامية» أكدت وسائل إعلام إيرانية مسؤولية القوات الإيرانية عن تحريرها، كما أشارت وسائل إعلام شيعية، بتباه، الى أن الجنرال الشهير قاسم سليماني نفسه، كان يقود المعارك (رغم ما قيل عن عزله عن ملفّ العراق) فيما أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية شنها غارات جوية على مقاتلي «داعش» المحاصرين لآمرلي، أي أن إيران أمنت القوات البرّية وقدمت أمريكا التغطية النارية الجوية لها.


يكشف نموذج معركة آمرلي عدداً من الحقائق، أوّلها أن الطرفين، الأمريكي والإيراني، بغض النظر عن التصريحات الإعلامية المدويّة، يتعاملان مع الواقع المحلّي العراقي ببراغماتية كبيرة.
مع ذلك، يمكن ملاحظة تدرجات في الموقفين الأمريكي والإيراني بعد استيلاء «الدولة الإسلامية» على الموصل، فرد الفعل الأمريكي الأول كان محاولة إغراء إيران بحلّ المسألة عسكرياً، وكان هذا هو نوع «التنسيق» الذي رفضه خامنئي، أي دفع الفاتورة العسكرية من ميزانية الحرس الثوري الإيراني وحده دون أن يقابل ذلك ثمن سياسيّ كبير تدفعه أمريكا، سواء في الملف النووي الإيراني، او في ساحات سوريا ولبنان واليمن، وهنا تطوّر الموقف الأمريكي باتجاه «التنسيق» مع «حلفاء» آخرين يقبلون بأثمان أقل كلفة من أسعار إيران.


مع دخول بلدان عربية مثل السعودية ومصر والإمارات على سكّة «التحالف الدولي ضد داعش»، اتجهت البوصلة نحو إزاحة المالكيّ وتحسين شروط المشاركة السياسية للسنّة العراقيين، وبتوسيع البيكار أكثر مع الطلب من قطر وتركيا الإنضمام للقافلة، اضطر الأمريكيون لتقديم مقترحات «مفيدة» لإقناع حلفائهم بعملهم على علاج الوضع السوري المستعصي، فكانت فكرة تدريب وتسليح المعارضة «المعتدلة»، وهنا تصاعد الغضب الإيراني أكثر، وصارت تصريحات طهران وميليشياتها أكثر حدة، وانعكس هذا الغضب تصعيداً أمنياً خطيراً في اليمن، وتصاعداً في دعم إجرام النظام السوري بالمال والسلاح، وكذلك انعكس استمراراً في توريط «حزب الله» في الأرض السورية وتجميد انتخاب رئيس جمهورية للبنان، ومن غير المستبعد لاحقاً أن تشاغل إيران الأمريكيين بالميليشيات التابعة لها في العراق.


هذه التطوّرات تضطرّ أمريكا عملياً للقيام بتعديلات على استراتيجيتها العراقية والسورية، وهذه التعديلات تدفعها بالضرورة نحو تعديل جزئي للاختلال الكبير الذي أدى إليه احتلال العراق والسيطرة التدريجية الإيرانية عليه، وبالاستناد الى دول سنّية كبرى مثل تركيا ومصر والسعودية، وتوظيف «الحاضنة السنّية» للاعتدال، الأمر الذي سينعكس بتقارب أكبر مع العشائر السنية العراقية، وكذلك سينعكس تغيرات سياسية في تشكيلة «الإئتلاف السوري» وعديد وعتاد قوات «الجيش السوري الحرّ»، سيعطي إشارات إنذار كثيرة لإيران مما سيؤذن بخطوات عدائية من الجمهورية الإسلامية نحو أمريكا، قد تودي لتصعيد الازمة بين الدولتين.
&