وليد أبي مرشد

ليس كلبنان دولة مشاكلها معيشية - اقتصادية وخلافاتها سياسية - مذهبية.


أوليس لافتا أن يتحول كل قطاع خدماتي في لبنان إلى أزمة قائمة بحد ذاتها.. وأزمة تتفاقم مع الأيام، سواء كان عنوانها الكهرباء أو الإنترنت أو المياه أو حتى طمر النفايات؟!


قياسا بالدول الديمقراطية شكلا، وحتى نظاما، يتفرد لبنان بميزة «اجترار» أزماته سنة إثر سنة، وعهدا إثر عهد، بحيث تبقى عالقة بلا حل، مطمئنة إلى قدرة اللبنانيين المذهلة على التأقلم مع الأمر الواقع وكأنه قضاء وقدر.. لا غير.
قد يكون الشعار الوحيد الذي يجمع عليه الشارع اللبناني، ويتجاوز به مذهبياته وولاءاته، هو تعليق أبنائه على كل أزمة، طارئة كانت أم مزمنة: «ما في دولة».


ويبدو أن ترداد اللبنانيين لمقولة «ما في دولة» أصبح تهمة تريح الدولة أكثر مما تقلقها، كما يوحيه تعاملها المرتبك مع مشكلة احتجاز «الداعشيين» لعدد من العسكريين اللبنانيين في جرود بلدة عرسال.


بأي منطق عادي يعتبر احتجاز عسكريين لبنانيين على أرض لبنانية من قبل مجموعة لم تقصّر يوما في إثبات صحة توصيفها «بالتنظيم الإرهابي» مشكلة لبنانية داخلية يفترض حلها، أولا وآخرا، بإجراء عسكري ميداني.
ولكن إذا كانت ثمة اعتبارات سياسية ومذهبية وأمنية تحول دون اللجوء إلى القوة، فأضعف الإيمان أن يجري التفاوض مع «الداعشيين» على إطلاق سراحهم «من الند إلى الند».


رغم ما يعنيه التفاوض مع تنظيم إرهابي من تنازل ضمني عن هيبة الدولة، من البديهي أن تستعيد الحكومة اللبنانية زمام المبادرة في هذه العملية، علما بأن الدولة اللبنانية ما زالت تملك أوراق ضغط مؤثرة على «الداعشيين» إن هي قررت اللجوء إليها.


إثبات جدية الدولة في تفاوضها على تحرير العسكريين المحتجزين يستوجب إقران عملية التفاوض بإجراءات ميدانية وسياسية تشكل رسالة «أمنية» واضحة لـ«داعش».


هذا لا يعني الاستهانة بطاقات «داعش» الإجرامية التي حرصت على عرضها في تحدّيها السافر لدولة بحجم الولايات المتحدة وطاقاتها. والواقع أن مشكلة التعامل الثنائي بين الدولة اللبنانية والتنظيم «الداعشي» تعود، أصلا، إلى خلل المعادلة التي تحكمه: فما يمكن للتنظيم أن يقدم عليه من تجاوزات وأعمال إجرامية، تحرّمه القوانين الدولية على أي دولة كانت.


من هنا صعوبة إمساك الحكومة اللبنانية بزمام المبادرة في عملية التفاوض مع هذا التنظيم، وبالتالي صعوبة انتقالها من موقع «المتلقي» لشروط «داعش» إلى موقع المفاوض «الند» لها.
قلب هذه المعادلة رأسا على عقب شرط أساسي لإعادة مبادرة التفاوض إلى الطرف اللبناني في ظروف أقل ما يقال فيها أنها تكبل قراره الرسمي أكثر مما تعينه.


داخليا، لا يساعد استمرار شغور موقع رئاسة الجمهورية، ولا «شرعية» المجلس النيابي الممدد لذاته، على بلورة قرار لبناني «وطني» بشأن المواجهة الأجدى لـ«داعش».


وخارجيا، لا تبدو الوساطة الإقليمية قادرة، حتى الآن على الأقل، على إقناع «داعش» بالتعقل - هذا إن كانت «آيديولوجيتها» المتصلبة ونشوة إنجازاتها العسكرية السريعة في سوريا والعراق تسمح بذلك.
وإقليميا، لا يبدو التنسيق مع النظام السوري في عملية عسكرية لـ«داعش» في جرود عرسال «مسموحا» به، إن كان واردا أصلا.


ودوليا، لا يبدو التحالف الدولي الفضفاض الذي تقوده الولايات المتحدة قادرا على تحسين موقع لبنان التفاوضي في الوقت الراهن وقبل أن يحقق إنجازات ميدانية ملموسة.
ربما هي المرة الأولى التي يجد فيها لبنان نفسه مضطرا «لأن يقلع شوكه بيديه»، على حد تعبير المثل الشعبي اللبناني.


«داعش» اليوم أدق امتحان يجتازه لبنان منذ الاستقلال. وإذا لم تشكل هذه المرحلة الحرجة والخطرة حافزا كافيا لأن تتنازل الزعامات الطوائفية في لبنان عن مصالحها الفئوية الضيقة وتقدم عليها المصلحة الوطنية الشاملة فتواجه «داعش» كالبنيان المرصوص في وقفة دعم باتت ضرورية للمؤسستين الديمقراطية (على هشاشتها) والعسكرية (رغم محدودية إمكاناتها) فقد لا يكون من المبالغة في شيء الافتراض بأن اللبنانيين بأجمعهم قد يتحولون إلى رهائن عند «داعش».