سكينة المشيخص

إطلاق "داعش" خطأ استراتيجي لكل جهاز مخابرات أسهم في إنتاجه. وتحمل توابعه يأتي نسبيا بحسب الدور والوظيفة والإسهام، ولا يمكن لتركيا أن تهرب من دورها في ذلك، والاكتفاء بما هو إنساني للقضاء عليه، فالجزاء من جنس العمل

&


من ثوابت الرياضيات والحياة أن أقصر مسافة بين طريقين هي الخط المستقيم، وذلك توضيح نحتاجه للنظر في علاقة تركيا بتنظيم "داعش"، وللأمر وجوهه التي تتعلق بالمخابرات التركية التي أسهمت إلى حد كبير في صناعة التنظيم بعد أن استنفدت الدبلوماسية التركية جهدها ووسعها من أجل ثني بشار الأسد عن خطه العنيف في مواجهة شعبه، فكان ذلك خيارا بتأهيل التنظيم كخطة "ب" لحرق روما بمن فيها.


وحين ننظر في التأكيدات الحكومية التركية حول عدم المشاركة في العمليات المسلحة في إطار التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة لمحاربة تنظيم "داعش" المتطرف في العراق وسورية، والتركيز كليا على العمليات "الإنسانية"، فذلك لأن لتركيا حسابات بائتة مع التنظيم، ومزيد من المواجهة يكشف خبايا استخباراتية غير محبذة وستكون مكلفة سياسيا وعملياتيا إن لم تتأن الدولة التركية في مواجهة التنظيم.


ليس بالضرورة أن ننظر إلى طريقة مشاركة تركيا في المواجهة الدولية للتنظيم من باب التخاذل ولكن صناعة "داعش" كانت عملية معقدة خرجت عن السيطرة، ولم يكن لطرف أسهم في إنشائها كامل مفاصل اللعبة للتحكم فيها واستخدامها وتوظيفها بشكل ميداني يرهق الأسد ويضعفه وبعدها يتلاشى التنظيم ويتبخر في الهواء، وذلك ما لم يحدث بل أصبح التنظيم مثل الشوكة في الخاصرة، وخرج بأفكار لا تستند إلى أي منطق أو ثابت ديني أو إنساني، يغرد وحده في فضاء واسع من الفوضى والعمليات الإرهابية التي تمعن في القتل ونشر الرعب والخوف.


مجلة "نيوزويك" الأميركية، في إصدارها الأوروبي، تناولت تحول تركيا إلى أرض لتجنيد مقاتلى "داعش" في سورية والعراق، بالاستناد إلى شهادات مواطنين أتراك انضم ذووهم إلى التنظيم، وأشارت إلى ما ذكرته صحيفة "ميللت" التركية، في يونيو الماضي، بأن هناك نحو 3 آلاف تركي انضموا إلى "داعش"، بينما تم الإفراج قبل يومين عن 49 مواطنا تركيا، بما فيهم القنصل العام، كانوا محتجزين لدى التنظيم.


تلك الحقائق تجعل تركيا ضعيفة وغير ملائمة كمشارك في مواجهة التنظيم، خاصة وأن هناك حقيقة أخرى تتعلق بإمكانية تورط أنصار "داعش" في تركيا في صراع عنيف مع الجماعات اليسارية المسلحة المرتبطة بالمتمردين الأكراد، الذين يقاتلون في سورية، ثم إن الدولة التركية بمؤسساتها الحكومية والمعارضة غير متفقة أو مجمعة على تصنيف التنظيم كإرهابي تماما، وفي حال تمت مواجهة فإنها ستكون استنزافية ومتشعبة تدخل بالطموحات التركية في التمدد كقوة إقليمية مؤثرة ونافذة في النفق المظلم.


طموحات تركيا التوسعية في الإقليم الإسلامي، وتقديم نفسها كقوة إسلامية معتدلة قابل للتشويش والخسارة في حال الدخول في مواجهات مباشرة مع التنظيم، حتى ولو على سبيل الحياء "إنسانيا" كما صرحت أخيرا، في وقت لا يمكنها أن تخرج بسياساتها عن الفلك الأميركي، وممارسة سلوك سياسي وظيفي في أكثر من جهة على أن تحصل على دعم غربي يتعلق باستحقاقاتها في الاستقرار وتسوية القضية الكردية وتأمين حدودها، ولذلك ليست مهيأة لمزيد من الجروح والإضعاف الذي لن يخدم طموحاتها الإقليمية والدولية على السواء.


لا يمكن لتركيا أن تتخلص من عفريت "داعش" بالهروب إلى الأمام، وهي بحاجة إلى خطة "ج" تضحي فيها بطموحاتها التوسعية من أجل أن تستقر وتكتفي بأدوارها التاريخية الوظيفية الروتينية، بعيدا عن أي أدوار أكبر من حجمها الطبيعي. ولأن التاريخ لن يعود إلى الوراء فإن أي أفكار تتعلق باستعادة مفقودات إمبراطورية أو إمبريالية يصبح سلوكا خاطئا ومدمرا، وعلى الدولة التركية أن تتحمل نتائج بعث تنظيم غير مدروس مثل "داعش" أصبح سهما في العين المتطلعة إلى أفق أبعد من حدود تركيا.


وإطلاق "داعش" خطأ استراتيجي لكل جهاز مخابرات أسهم في إنتاجه، وتحمل توابعه يأتي نسبيا بحسب الدور والوظيفة والإسهام، ولا يمكن لتركيا أن تهرب من دورها في ذلك والاكتفاء بما هو إنساني للقضاء عليه، فالجزاء من جنس العمل، وطالما تعجلت الأجهزة الاستخباراتية في صناعة التنظيم فإن نتائجه الخاطئة تبدو كارثية من واقع ما نرى ونسمع من تهديد للبشرية بأسرها، وذلك يتطلب فضيلة الاعتراف بالخطأ كما فعل الأميركان، والحشد للمواجهة، أما الرقص "على واحدة ونص" كما تفعل تركيا، فلن يجعلها بمأمن من غدر التنظيم وسوء أفعاله.


لا يمكن أن تخطئ ولا تدفع الفاتورة والثمن، ذلك ما على تركيا إدراكه.
&