محمد خليفة

لم يكن احتلال محافظة الموصل في العراق من قبل ما يسمى تنظيم "داعش" حدثاً عادياً . فسقوط هذه المحافظة الكبيرة زعزع أمن واستقرار العراق وبث الخوف والرعب في مختلف دول المنطقة من خطورة هذا التنظيم وقوته . كانت دول الغرب تلتزم الحياد في الصراع الذي كان دائراً بين الجيش العراقي والميليشيات المناوئة للعملية السياسية في العراق، لكن بعد أحداث الموصل تغيرت النظرة، وتطلب الأمر من هذه الدول الإسراع إلى مجلس الأمن الدولي، لإصدار قرار دولي تحت الفصل السابع يحمل الرقم 1270 يفرض عقوبات دولية على "داعش"، ويدعو مختلف دول العالم إلى محاربته ويفرض عقوبات دولية بحق كل من يتعاون معه، أو يسهل له أعماله أو يقدم له المال والسلاح، ويدعو إلى تشكيل ائتلاف دولي لمحاربته، ومنع تمدده إلى الدول المجاورة للعراق .


وبناء على هذا القرار اتفق قادة حلف "الناتو"، خلال اجتماعهم مؤخراً في نيوبورت بمقاطعة ويلز البريطانية، على تشكيل تحالف دولي تقوده الولايات المتحدة مع حلفاء من الناتو، وشركاء إقليميين على غرار ما حدث في إعداد قوات "إيساف" الدولية في أفغانستان لمواجهة "داعش" . وقال الرئيس باراك أوباما في خطاب يوم الجمعة الماضي إن ما يعرف بتنظيم "داعش" يفرض تهديداً متنامياً ليس فقط على العراق وسوريا ولكن على بقية دول العالم، مؤكداً أنه لن يتردد في مهاجمة مقاتلي "داعش" ولن يسمح بأي ملاذ آمن لهم، وأنه مستعد لشن ضربات جوية في سوريا ضد "داعش"، وأن القوات الأمريكية ستوسع الغارات التي تشنها في العراق ضد المتطرفين .


التطرف الديني والعرقي لا مكان له في عالم اليوم، وقد دفع العالم ثمناً غالياً من جراء التطرف العرقي في ألمانيا، واستدعى القضاء عليه اندلاع حرب عالمية أزهقت أرواح 60 مليوناً من البشر، وخراب هائل شمل معظم قارة أوروبا وروسيا والشرق الأقصى، وبعض مناطق الشرق الأوسط . وتبدو حالة "إسرائيل" فريدة في هذا المجال، فهي دولة ذات مشروع عنصري إلغائي، وهي تثير الحروب ضد جيرانها العرب بشكل مستمر بهدف التوسع، ومع ذلك يتم التغاضي عن أفعالها بسبب الموقف الغربي المساند لها .


وتشكل "داعش"، ومن قبلها "القاعدة"، حالة عنصرية جديدة تقوم على أساس فتاوى إسلامية منحرفة، يتبناها رجال ليس لهم من الإسلام سوى الاسم، فهم بهائميون في أفعالهم وتصرفاتهم، يغترون بإطالة ذقونهم وشعورهم حتى إذا رآهم أحد حسب أنهم خرجوا للتو من كهفهم بعد سبات لمئات السنين . وقد يتساءل المرء عن السبب الذي أدى إلى ظهور هذه الحالة الداعشية في المنطقة العربية في القرن الحادي والعشرين، وفي عصر الازدهار التقني والصناعي؟ . الواقع أن العقل العربي يعاني انتكاسة حضارية سببها فشل مشاريع التنمية في الكثير من الدول العربية، وغياب البديل الحضاري عن الأفكار السياسية التي سقطت بسبب عدم فعاليتها مثل الفكر القومي والشيوعي، ونشوء حالة دينية أثبتت وجوديتها في أفغانستان بعد طرد الجيش السوفييتي منها عام ،1989 ومن ثم ظهور "طالبان" وزميلتها "القاعدة" بمشروع كبير في أفغانستان، وانتقال هذا المشروع إلى دول المغرب العربي، وخاصة الجزائر، ومن ثم إلى العراق الذي أصبح بعد الاحتلال الأمريكي له بيئة مناسبة لنشأة التطرف .


ومع حدوث الفوضى المتنقلة في بعض الدول العربية عام ،2011 كان التطرف الإسلامي حاضراً بقوة، حيث إنه اندفع يقاتل من أجل تثبيت وجوده وإقامة دولة أحلامه . ويعتمد الفكر المتطرف إلى تحطيم ما يجدون من تماثيل، ونصب تذكارية في الدول العربية التي يستبيحونها، وتكفير الآخر وإباحة دمه، واختطاف النسوة والفتيات وبيعهن وكأنهن سلع للتجارة والبيع .


وخلال الأيام الماضية وزّع تنظيم "داعش" المتطرف على عناصره في سوريا نحو 300 فتاة من أتباع الديانة الإيزيدية ممن اختطفن في العراق، وذلك على أساس أنهن "سبايا" من غنائم الحرب مع الكفار . وهؤلاء المتطرفين لا يمكن محاججتهم، ليس لأنهم لا يصدرون عن علم شرعي فقط، ولكن لأنهم كذلك يخترقون نواميس الحياة في كل ما يفعلونه، فيستخفون بالعواقب، ويمارسون التنظيم المبني على سحق القِيم، ونحر الأخلاق والفضيلة في إطار معتم وفكر عقيم يهدم ويدمر ليقتل على الهوية والمذهب، فهم يعيشون حالة من الدمج الغريزي المتوحش، حيث تلتحم في شخصية هؤلاء غرائز الحياة والموت والنوازع الصادرة عن الطاقة البهيمية، أو بالأحرى الطبيعة البدائية، فهم ضد الإنسانية وضد الحضارة وحركة التاريخ، يندفعون بالأمة العربية والإسلامية إلى الصرعية والسلوك الإجرامي ومن كل إيجابية وفضيلة، لذلك يتميز سلوكهم بالإذلال والعدوانية بسبب دوافعهم السادية، وأحلامهم المبالغة في الطموح بوهم إقامة الخلافة الإسلامية، بحيث تكون لواء زعامة العالم، دون إدراك أن العالم ليس بالمتجلد الظلامي من الأفكار والأشباح، ونسوا أن هذا العصر عصر الانتقال إلى الحقبة الجديدة من تاريخ البشرية، وله مساراته التي لا يمكن قهرها، فهي كالزمن الذي تستمر سيرورته من الواقعية العارية لسياسة القوة .


ومن هنا لا بد من مواجهة هؤلاء مواجهة جادة صارمة، وقطع دابرهم والقضاء عليهم عسكرياً من أجل منع انتشار شرورهم . فالهزيمة العسكرية وحدها هي التي ستضع حداً لتمدد دولتهم وستكون بداية لاندحار مشروعهم . وقطعاً لن ينتهي الفكر المتطرف بزوال "داعش" وأخواتها، بل سيبقى، ولكن بلا تأثير، مثل الفكر اليميني المتطرف في أوروبا الذي يحاول الظهور بين الحين والآخر، ولكنه يواجه بموقف حازم من عموم الشعوب الأوروبية . وهكذا، فإن الإجماع الدولي على محاربة داعش ومثيلاتها من التنظيمات المتطرفة سيؤدي إلى القضاء عليها لا محالة . وقد يكون ذلك في المستقبل القريب، وسوف يعقب ذلك ردة فعل عربية واسعة ضد المتطرفين الذين فشلوا في إيجاد البديل الحضاري الكفيل بإحداث نهوض حقيقي بالمجتمعات التي انتشروا فيها، بل على العكس، فقد تسبب وجودهم في حدوث كوارث إنسانية في ليبيا، وفي العراق الذي تم استباحة أعراض الناس فيه من قبل المتطرفين .


إن القرار الدولي الموجه ضد "داعش" هو بمثابة شهادة وفاة لها . وهو في نفس الوقت تنبيه للشعوب الإسلامية بأن العالم لا يحتمل التطرف، وأن الخطأ في هذا المجال قد يؤدي إلى اندلاع حرب عالمية لا تبقي ولا تذر .