منصور النقيدان

في ربيع عام 1989 كنت محظوظاً بأن أدعى وأنا في سن التاسعة عشرة إلى الغداء مع المفتي السابق الشيخ عبدالعزيز بن باز، كنت قد قضيت نهار ذلك اليوم وأنا قريب منه، بعد صلاة الفجر في درسه في مسجد ساره، ثم في مكتبه ضحى في الرئاسة العامة للبحوث والإفتاء، حيث مضى بنا الوقت ونحن نتأمله، نشعر بعاطفة جارفة نحوه، ونجد فيه الأب والمربي والمرشد وشيخ الإسلام، كانت عيوننا تكاد تغرورق جراء التأثير الجارف من الإجلال والهيبة والحب لذلك الإنسان الغريب الذي لا يتكرر.

في مكتبه كان قد احتاج أن ينزوي عنا في غرفة صغيرة تسمى المختصر، حيث تصرمت عشر دقائق وهو منهمك ليتوسط في حل خصام بين واحد من العلماء وبين زوجته التي اتصلت بابن باز تشكو زوجها وتهيل عليه الدعوات الغاضبة لأنه أتى لها بضرة. عادت لتتصل به مرة ثانية ونحن جلوس معه، هذه الكرة لم يسلم ابن باز من شرر غضبها حيث رمته هو الآخر بتشجيع بعلها وتحريضه على التعدد، ومع أن الشيخ برأ نفسه من اتهامها إياه، إلا أنه أكد عليها أن لزوجها الحق في أن يتزوج مثنى وثلاث ورباع. وهؤلاء الثلاثة قد رحلوا عن هذه الدنيا، المفتي والشاكية والبعل، لا أحد منهم اليوم يدب على هذه الأرض.

كان الشيخ في تلك الأيام قد رفع إليه تقرير من بعض المحتسبين من العاملين في هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرهم ممن يرون في أنفسهم طلبة علم، وحراساً للسلفية، يقترحون فيه تفجير غار حراء وهدمه ومسحه تماماً حتى لا يكون مزاراً للجهلة، ووسيلة للتبرك بالحجارة والتمسح بها، والكتابة عليها، كونه تشويهاً لجناب التوحيد، وذريعة إلى الشرك الأكبر، واستند الذين قدموا الخطاب إلى قطع الخليفة عمر بن الخطاب لشجرة كان الناس يجتمعون حولها جلس عندها النبي صلى الله عليه وسلم، حتى لا يقع الجهلة في الإفراط والغلو بسببها.

ولكن ابن باز قابل ذلك الاقتراح بالاستياء مقارناً بينه وبين القبة التي تعلو قبر الرسول، وأن الملك عبدالعزيز تعرض لضغوط كبيرة في عام 1924 من قبل «إخوان من طاع الله» الذين كانوا يشكلون القوة الضاربة في جيشه، داعينه لهدم القبة كونها بدعة شركية نبذها الإسلام وحذر منها. ولكن الملك عبدالعزيز استطاع أن يصرف أنظارهم عنها، محذراً إياهم من إثارة غضب عموم المسلمين من كل مذهب، ومؤكداً على مراعاة مشاعرهم، ومستشهداً بوقائع صرف عنها الرسول نظره تأليفاً لقلوب أهالي مكة وحرصاً على الوحدة.

دعانا الشيخ إلى الغداء وبعد أن استمع إلى الأخبار أغلق الراديو، فسأله شاب كان معنا على السفرة: «يا شيخ، إن أمي وأبي كلاهما شيعيان، وأنا أصبحت سنياً، فكيف أتعامل معهما؟ فأجابه الشيخ بأن عليك أن تبرّهما، وتحسن إليهما، صاحبهما في الدنيا معروفاً، وليس عليك إلا أن تدعو لهما، ثم لزم الصمت، ومع أن الشاب اليافع أعاد السؤال مرة أخرى إلا أن ابن باز اكتفى بتكرار نصيحته له».

تجلت حكمة وسعة عقل هذا الحنبلي السلفي الوهابي في قصته الشهيرة مع الشيخ محمد الغزالي، حينما قصد واحد من طلاب ابن باز إحراج الغزالي الأزهري الأشعري وإثارة غضبه وهو في ضيافة ابن باز في بيته في الرياض، حيث سأل: هل الأشاعرة من أهل السنة أم هم مبتدعة من الفرق الضالة؟ فآثر ابن باز أن يتنازل لضيفه الغزالي ويترك له حق الإجابة من دون أن يعقب عليه أو يستدرك.

كان ابن باز آخر الوهابيين العظام، ومن المؤكد أنه ترك بعده فراغاً لم يتمكن أحد من بعده أن يشغله، ولا أن يداني مكانته وتأثيره وقبوله بين عموم المسلمين شرقاً وغرباً.
&