‏بهجت قرني

أثار المقال الأخير منذ أسبوعين عن «الجيش والسياسة» الكثير من المناقشات، الكترونيا وتليفزيونيا، بل خصص له زميل كريم ـ د.عبدالغفار الدويك ـ مقاله هنا فى صفحة الرأي. تحقق الهدف إذن من الاهتمام بموضوع الجيش والسياسة، محاولة تحليله علميا ومناقشة الجديد والقديم فيما يتعلق بآثاره، فى الأدبيات العالمية الحديثة وكذلك فى الممارسة.

وبالنسبة لمصر تحديدا، فإن الكثيرين يؤكدون التشابه وحتى الامتداد والاستمرارية بين ما يحدث حاليا وما حدث فى سنة 1952، على أساس أن هذا هو «الجيش فى الحكم» وظاهر الأمور يؤيد هذا، ظاهر الأمور فقط، لأن وصول عبدالناصر والسيسى للحكم يختلفان، كما أن السياق ـ مصريا، عربيا وعالميا ـ أبعد ما يكون عن التماثل.


فكما هو معروف وصل عبدالناصر ورفاقه للحكم عن طريق انقلاب عسكرى كلاسيكى جدا، وذلك بعد تكوين خلية الضباط الأحرار وتدعيمه فى مواجهة نظام ملكى فاسد، والزج بالجيش فى حرب لم يستعد لها فى سنة 1948 عقب إعلان دولة إسرائيل، ثم أهمية حصار عبدالناصر الشهير. فى الفالوجا حيث أعطى هذا الحصار الفرصة لعبدالناصر ورفاقه للتفكير أكثر وأكثر فى الوضع السياسى الفاسد فى مصر والتأكد فعلا ـ كما قال أحد القادة الوطنيين قبل استشهاده ـ ان ميدان المعركة الصحيحة ليس فلسطين حيث تم الزج بالجيش دون إعداد أو استعداد ولكن فى أرض الوطن وضد نظام الحكم الملكي، كانت خلية الضباط الأحرار تعمل فى سرية وكتمان، وهو أهم خصائص الانقلاب العسكرى الكلاسيكي، وحتى بعد نجاح الانقلاب والوصول للحكم، سيطر الطابع العسكرى بشدة على إدارة الأمور، بل هناك مقولة مهمة فى كتيب فلسفة الثورة حيث يعبر عبدالناصر عن خيبة أمله بسبب غياب الجماهير الشعبية عن العمل والتأييد السياسى غداة الانقلاب، فقد توقع مظاهرات الدعم والتأييد، ولكن هذا تأخر ولم يجد إلا فلول الأحزاب القديمة المتهالكة كل منها ينتقد الآخر، عبر عبدالناصر عن حزنه للغياب الشعبى آنذاك.

نعرف أيضا أن عبدالناصر وكذلك السادات لم يكونا دخيلين على العمل السياسي، فقد اعتقل السادات فى حادث الاغتيال الشهير، كما أن عبدالناصر كانت «تأكله السياسة» فقد اشترك فى المظاهرات المتكررة فى أثناء دراسته الثانوية، وحاول الإجابة عن تساؤلاته المتعددة عن أفضل التوجهات السياسية عن طريق التواصل مع حزب سياسى أو جماعة إلى أخري، بما فيها جماعة الإخوان المسلمين، ورسالة الدكتوراه الجادة فى باريس للباحث المصرى الفرنسى د.توفيق أكلميندرس ـ ومجلداتها الأربعة الضخمة تحتوى على تفاصيل مهمة عن هذه الحقبة والنخبة العسكرية الجديدة نخبة شابة تمتليء بالحماس، وهذا ما جعل الانقلاب الكلاسيكى يتحول وبسرعة إلى ثورة سياسية واجتماعية شاملة غيرت من مصر فعلا.

كان عبدالناصر ورفاقه من صغار الضباط نسبيا فى بداية الثلاثينيات من العمر، بينما السيسى هو من «جنرالات الجيش» بل كان وزيرا للدفاع قبل وصوله لرئاسة الجمهورية ولم يأت عن طريق خلية عسكرية تعمل فى الكتمان وتخشى دائما القبض عليها، بل جاء تحرك وزير الدفاع بعد مظاهرات شعبية ضخمة وحتى اتصالات متعددة مع الكثيرين من النخبة السياسية المدنية، بمعنى آخر ـ وعلى عكس تحرك الجيش فى سنة 1952 ـ كان تحرك الجماهير سابقا وليس لاحقا على تغيير النخبة السياسية الحاكمة وعزل مرسي.

هناك اختلافات مهمة أخرى فى طريقة الوصول للحكم بين السيسى وعبدالناصر، ولكن الأهم هو السياق المختلف: مصريا، وعربيا، وعالميا. فليس هناك داع لتفصيل كيف تطور المجتمع المصرى فى الستين عاما الماضية منذ بداية الناصرية وحتى نتيجة لعملها السياسى والاجتماعى فيكفى أن نتذكر أن السيسى ولد فى سنة 1954، أى بعد عامين من قيام عبدالناصر ورفاقه بالاستيلاء على الحكم ويؤرخ الاقتصادى النابه ـ جلال أمين ـ بطريقة شيقة «ماذا حدث للمصريين» فى هذه الفترة. والسياق العربى كان يسيطر عليه «الكفاح ضد المحتل الأجنبي» من ثورة الجزائر الدامية فى الخمسينيات وحتى الاستقلال فى سنة 1962 أو بداية تحرك الأسر والقبائل فى الخليج العربى بتأييد من مصر، بينما الآن تسيطر الدول البترولية على فاعليات العمل العربى وتوجهه، بل إن مصر نفسها تعتمد على الكثير من هذه الدول سواء عن طريق المصريين المهاجرين إليها بعد أن ضاقت بهم مصر أو عن طريق المساعدات والاستثمار، وثالثا فان تركيبة النظام العالى نفسه تغيرت فلم يعد هناك مثلا حرب باردة بين «كتلتى الشرق والغرب»َ أو استقطاب أيديولوجى بين الشيوعية والرأسمالية، بل ظهرت قوى عالمية ناشئة من الصين إلى الهند إلى البرازيل وحتى قوى نووية مثل باكستان.

باختصار وبالرغم من تشابه دور الجيش فى الحكم، فان أسوأ نصيحة أن يوصى المحلل بالحاجة لتكرار سياسات الخمسينيات والستينيات، لقد تغير العالم وكذلك مصر.
&