أنور عبد اللطيف

دعا الرئيس عبد الفتاح السيسى إلى البحث فى مشاركة فعالة للشباب فى العمل السياسى من خلال الأحزاب، واختار «الأهرام» أكبر وأعرق الصحف المصرية لعقد ندوة لهذا الغرض، ثقة من الرئيس فى دورها عبر تاريخها المديد فى جمع شمل الوطن والحوار بين الأجيال وإدارة التفاوض بين أطرافه، والاتفاق على آلية لانتقال السلطة للشباب فى جميع المواقع من الكبير الذى أدى دوره إلى الجيل الجديد صاحب الحق فى تقرير مصير المستقبل.

لكن الغريب أن المشتاقين فى بلاط الصحافة اعتبروا انحياز الرئيس للشباب فرصة لاستئناف إلقاء الحجارة فى وجه كل كبير، وأعطوا لأنفسهم الحق فى توجيه اللعنات وإطلاق رصاص المانشيتات التى تدور حول شعار «ارحلى يا دولة العواجيز»!.. وفى خلط متعمد وظالم لم يفرق المشتاقون بين دعوة إطلاق رصاصة الرحمة على كل سلطة قديمة مستبدة حزبية أو صحفية أو مؤسسية شاخت فى مواقعها، وبين الهجوم المجرد من الأخلاق والقيم على رموز الوطن من العوجيز.
ــ وللحق وللتاريخ كان من أوائل الذين رفعوا صيحة الدعوة الأولى ضد إدارة السلطة القديمة العجوز فى فكرها، والمستبدة بدولتها هو الأستاذ محمد حسنين هيكل ، حين أطلق فى محاضرة قبل عشر سنوات وصفه الشهير لإدارة الرئيس مبارك أنها «سلطة شاخت فى مواقعها»!

وكان طبيعيا بعد ثورة 25 يناير وفى ظل استمرارعدم وجود «سيستم» للتغيير وتداول المناصب ــ غير الموت أو العزل ـ أن ينفجر بركان «مانشيتات» تعبر عن الفوضى وخلط الأوراق بين كل ماله علاقة بالسلطة والماضى معا لزعزعة أركان الدولة، وضم خليطا من المتعطشين المشتاقين للمناصب والترقى والمستحقين المظلومين، وأعطى كل مجموعة أو ائتلاف فى شارع أو مصلحة أو عمل لأنفسهم الحق فى كسر باب أى مسئول والهجوم عليه ومنعه من ممارسة عمله دون وجود بديل أو خطة، وغذى هذه الانتفاضات وقادها أحيانا جماعات من الإخوان وحركة 6 أبريل، وقد ظهر فيما بعد أنهم درسوا بؤر التوتر فى الدولة وكيفية زيادة حالات الانفجار بجذب المطحونين والمظلومين والمهمشين وأصحاب المصالح المعطلة، وقد شاهدت شخصيا فى صيف 2011 مظاهرة لأصحاب عقود تمليك معطل توقيعها منذ 25 سنة فى الهيئة العامة للإصلاح الزراعى، تحولت من شكوى عشرات الفلاحين إلى مظاهرة ضخمة ضد حكم العسكر، أغلقت شارع البطل أحمد عبد العزيز، وبالمثل تحولت انتفاضة لسائقى الميكروباس ضد بلطجية «الكارتة» فى الشوارع الى انتفاضة شعارها «الداخلية إرهابية» وشارك فيها آلاف التكاتك الذين خرجوا بعدها من جحورهم ومساراتهم المحددة فى الحارات إلى الشوارع والميادين العمومية ولم يعودوا حتى اليوم!

ــ أما بخصوص الدعوة الثانية.. وهى «إطلاق النار» على كل كبير أو عجوز أو قيمة أو رمز فقد شاعت فى صحف الابتزاز والمصالح الخاصة ونالت رموز الصحافة ،وقادها بهلوانات «صحافة بير السلم» فتوهموا أن ما تحتاجه الدولة من إعلامى «الصفوف الأولى» فى الاحتفالات هو الاستفادة من مواهبهم فى صحافة الهبوط واستعراض ما لديهم من قدرة على ابتزاز رجال المال والفنانات وفتيات الغلاف ، وقذف الطوب والحجارة على رموز السياسة والصحافة،

وهنا تأتى قيمة دعوة الرئيس لمشاركة فعالة للشباب فى العمل السياسى من خلال «منبر الأهرام» العريق بكل قيمه ومبادئه، لتعنى بكل تأكيد أنها ليست دعوة لهدم القيم وتفجير الصراع بين الأجيال وإطلاق رصاصة الرحمة على «الأساتذة»، بل تحتمل دعوة الرئيس إنذارا أكيدا لوقف نوعين من الاتجار بالبشر تحت دعوى الشبابية الصحافية:

الأول: صحافة التجارة بالغرائز.. هو التفريق بين ما «يحتاجه» الشباب وبين «مايريده»، بغرض جذب القطاعات الشابة لقراءة الصحف، فقد جربوا الصدور العارية والصور المثيرة للغرائز والشائعات والأساليب الخادشة للحياء، واحمرت عناوينهم واصفرت أوراقهم بكل ألوان الإثارة، وصارت كل شائعة مانشيتا حتى «يدفع» صاحبها الثمن أو يثبت العكس، فماذا حققوا من إنجازات وماذا بقى من صحافتهم وماهى القيم التى غرسوها وأين المبادىء الوطنية التى يحتاجها الشباب للمشاركة فى بناء وطن؟

الثانى: «عمالة الأطفال» فىالصحافة.. وهو استغلال حاجة الشباب حديثى التخرج من اقسام الصحافة وكليات الإعلام لتأمين مستقبلهم بدفعه لمهام خطرة قبل اكتمال النضج المهنى بكل ما يحمله ذلك على حياتهم ومستقبلهم ومبادئهم، وقصة اغتيال ميادة أشرف وإصابة العشرات من الصحفيين تحت التمرين من الصحف الخاصة والمواقع بسبب عنف الإخوان وعدم الوعى الكافى ليست بعيدة عن الأذهان ، ويتحدث الوسط الصحفى عن ظاهرة «التعاقد على الاستقالة» وهى أن توقع الصحيفة مع الشاب الموهوب عقد عمل ـ عرفيا أو مسيار ـ وخطاب استقالة فى الوقت نفسه يقبلها صاحب الصحيفة عند اللزوم أوحصول الشاب على عضوية نقابة الصحفيين، فإما أن يستمر فى العمل مقابل بدل التكنولوجيا فقط وهو غير مضمون أو يهيم على وجهه يقتات من خشاش الفضائيات والمواقع .

كما تحمل دعوة الرئيس ثقة فى إدارة االاهرام الحالية ومدرستهم الصحفية العريقة، ورسالة تقدير لناظر المدرسة محمد حسنين هيكل الذى نحتفل اليوم بعيد ميلاده الوحد والتسعين، والذى أطلق النار بحيويته ونشاطه على العجزة أصحاب نظرية «دولة العواجيز»، والذى أسسس مدرسة صحفية شهد بحيويتها العالم، ومازلنا نقيس خطأنا أو صوابنا بمدى ابتعادنا أو التزامنا بالأصول المهنية والمؤسسية التى أرساها، وقد حكى لى الأستاذ مصطفى سامى وهو أحد أساتذة مدرسة هيكل الصحفية، أنه ذهب فى بعثه تدريبية بصحيفة التايمز عام 1969، وسأل رئيس تحريرها وليام دوجلاس هيوم ابن وزير خارجية بريطانيا المعارض لمصر: لماذا تصرون على نشر مقال الأستاذ هيكل وهو كاتب من العالم الثالث وقريب من ناصر الذي أقلقت دعوته للتحرر أركان الإمبراطورية البريطانية ؟، فرد هيوم بفخر: إننا ننشر مقال هيكل علي ثلاثة أعمدة، بالصفحة الأولى أسبوعيا حتى يعرف القارئ بوصلة الأحداث العالمية ونبض الشرق الحقيقى!

هكذا كان «الأهرام». ولهذا ستبقى محل ثقة الرئيس ومقياسا لنبض مصر والشرق، وبوصلة للقيم الاصيلة والأحداث.

&