سهير حلمى&

نعم .. خصلة من شعر صدام حسين قد تفضى بكل الأسرار .. يقال إن مقتدى الصدر حضر عملية إعدامه ليتأكد أن الذى سيعدم صداما وليس الشبيه .. لكننا نتخيل الحصول على خصلة نحللها وراثياً لعلها تفضى لنا بالجين اللعين الذى توارثه عن سلفه الجبار «الحجاج بن يوسف الثقفى»


حتى طال واستطال وتجبر .. ترى ما هى الجينات التى تسببت فى ولع صدام حسين وأشياعه وأحفاده أمثال – أبو بكر البغدادى – فى بث الرعب والفزع ونشر الأهوال والخراب وإشعال نار الفتن التى لا تهدأ فى العراق .. كلما خفت شرارها تشتعل مرة أخرى وتتجدد المعارك وتحور هذا الجين الوراثى وسرعان ما توغل فى كل المنطقة العربية.

فهل نحن أمام «متلازمة صدام» التى يفقد بمقتضاها المريض جزءا من مادته الوراثية ويستبدل بها التطرف والإرهاب والسادية حيث ينخفض مستوى الذكاء العاطفى والسياسى إلى أدنى درجة .. بينما ترتفع نسبة العناد والقسوة وحدة الطبع والتهور وتضخم الأنا إلى حد الانفجار .. خصلة من شعر صدام حسين قد تكشف عن سر العلاقة الحميمة مع المسدس والخنجر والسموم التى تشربها منذ نعومة أظفاره وأسباب العنف المفرط الذى لا يورث كلون البشرة بالطبع، فالجينات تتأثر علمياً بالبيئة المحيطة وإذا كان كل منا يحمل ما لا يقل عن أربعة أمراض وراثية .. فماذا لو تتبعنا هذا السلسال الذى أتى بالخراب إلى أغنى البلاد وأقدمها حضارة .. ووضعها فى هذه المحنة والبلاء العظيم.

هذا طرح افتراضى بالطبع لكنه يستند إلى مؤشرات وملامح واقعية، فصدام أصبح لدى البعض بطلاً ملحمياً وفارساً شجاعاً كان غيابه يمثل لهم قمة الفاجعة تستدعى سيرته كلما اشتد الكرب فى بلاد الرافدين .. فيما يحمله الأغلبية فى العالم العربى مسئولية استقدام الشيطان الأعظم إلى بلد الرشيد بحثاً عن أسلحة الدمار الشامل التى هددهم يوماً بامتلاكها .. فكانت تكلفة هذه الملاسنات العنترية .. قتل مليون ونصف المليون وتشريد أكثر من 6 ملايين عراقى و5 ملايين أرملة و7 ملايين يتيم وتدمير دولة بأكملها.

سيرة صدام حسين لم تنضج إلى درجة الاحتراق فدائماً يوجد شغف لفض أسرار هذا الديكتاتور الذى كان يحيط نفسه بالأشباه لتمويه أعدائه .. ومنذ أيام تداولت المواقع الإلكترونية أنباء عن نقل جثمانه من تكريت خوفاً من نبش قبره .. وبين النفى والإثبات يتجدد الحديث عن «صدام الأصل» الذى تشكك البعض يوماً فى إعدامه .. بين الأصل والشبيه حكايات لم تنته .. بل لعلها تمهد للسرد الدفين الذى لم يكشف عنه النقاب بعد.

فى نهاية عام 2009 كتب خليل الديلمى – محامى صدام ورئيس هيئة الدفاع – مذكرات صدام حسين، ولكن هذه المذكرات لم يلق الضوء عليها إلا بقدر يسير ولم تلتفت إليها الأنظار .. فسرعان ما هبت موجات الربيع العربى بعد عام لينشغل الجميع فى إدراك العواقب والتداعيات الثورية .. تقابل الديلمى مع صدام حسين 144 مرة .. روى له فيها صدام الكثير من الحكايات والأسرار التى كنا نتكهن بها .. ومهما قيل عن مصداقية كلامه سياسياً .. يظل منهج الحكى الذاتى عن الطبائع والعادات الشخصية والانطباعات العامة عن الأشخاص والأحداث من وجهة نظر صدام أمرا غير قابل للطعن، لأنه يعكس خبايا نفسه وانفعالاته وعنائه الداخلى وصراعاته المتوالية وجزء كبير من جوانب شخصيته المتناقضة بصرف النظر عن رؤيته للأحداث. وقد أعلنت ابنته رعد أنها بصدد إصدار سيرته الذاتية بخط يده ولنقرأ هذه الشذرات من أقوال أبو عدى : حين انهار برجا التجارة العالمى كنت فى حمام السباحة وسمعت بالخبر وواصلت السباحة لمدة نصف ساعة ثم خرجت وتناولت الشاى مع الأصدقاء وسمعتهم وهم يتحدثون عن الحادث ولم أكن رأيته بعد .. وتساءلت ما ذنب هؤلاء الأبرياء ! يبدو أن الظلم الذى وقع على الفاعلين أنتج الحقد وحب الانتفام .. وقلت : أتوقع أن تنهار الولايات المتحدة وتتفكك مثل الاتحاد السوفيتى .. وحين سألونى عن أسلحة الدمار الشامل قلت لهم : لو كنتم تعلمون أن لدى أسلحة دمار لما أقدمتم على غزو العراق واحتلاله .. وعن قصة أسره يقول: الأمريكان أساتذة فى الدبلجة وكنت واثقاً أنهم سيحرفون الحقائق .. والحقيقة أننى كنت أتردد على منزل أحد الأصدقاء فى محافظة صلاح الدين وهو منزل الصديق «قيس النامق» وكان لدينا دراجة نارية وحصان وزورق لاستخدام كل وسيلة منها إذا لزم الأمر وقمنا بإنشاء ملجأ تحت الأرض .. كنت أقضى وقتاً طويلاً فى هذا البيت وأتفقد بعض فصائل المقاومة ،وفى اليوم الموعود عدت لهذه الدار وقرأت بعض آيات القرآن حتى الغروب .. فإذا بصاحبى يركض صائحاً .. لقد جاءوا الأمريكان .. وعلى الفور نزلت إلى الملجأ وبعد دقائق اكتشف الأمريكان مكانى فقبضوا على دون أي مقاومة فأنا قائد وهم جنود وليس من المعقول أن أشتبك معهم، ولو كان بوش معهم لقاتلته .. وقبل القبض على لاحظت على صديقى صاحب الدار بعض الشرود ومن شدة ثقتى به لم يساورنى أدنى شك فى احتمال أن يغدر بى.. لم أكن أمتلك إلا ما يقرب من مليونى دينار أدير بها أحوال المقاومة .. وصورة النخلة والتمر التى أظهرها الأمريكان وأنكرها الكثيرون حقيقة لأن العراق زاخر بأنواع مختلفة من التمور. ويوضح خليل الديلمى، أنهم قاموا بتصويره عند مدخل الملجأ .. لا الملجأ ذاته للإساءة إليه ويستطرد صدام حسين قائلاً : بمجرد إلقاء القبض على .. انهالوا علىّ بالضرب المبرح بأعقاب البنادق والعبارات البذيئة .. واقتادونى إلى بغداد .. كانت ذقنى طويلة وتوقعت من شدة الضرب أن يكون فكى قد كسر .. فتم فحصه وبحثوا فى فروة رأسى عن كدمات وهكذا تم تصوير المشهد .. ويؤكد صدام أنه لم يتعرض للتخدير .. ولكنه نقل إلى المستشفى لإجراء عملية فتق دون تخدير .. وسألوه عن أمواله البالغة 36 مليار دولار .. فأجاب : فتشوا مصارف العالم ليس لى هذا الرصيد .. أما مكان الاعتقال فوصفه بجب يوسف غرفة 3 × 5 امتار لها حوائط عالية جداً وفى السقف فتحة صغيرة .. يعتقد صدام فى مذكراته أن غزو العراق كان بسبب ضربه إسرائيل بتسع وثلاثين صاروخاً كما قال جيمى كاتر .. فيما يعتقد خليل الديلمى أن الحبل الذى استخدم فى شنقه كان مكوناً من تسعة وثلاثين عقدة لنفس السبب بإيعاز من إسرائيل التى اخترقت مشهد اغتياله.. ويؤكد صدام أنها حرب تم تدبيرها منذ مدة طويلة .. وتم تشويه صورته لقتل الروح المعنوية للشعب العراقى .. وينفى عن نفسه جريمة قتل الأكراد فى حلبجة ..ويقول إن إيران هى التى استخدمت الغازات السامة .. وعن حملة الانفال ومقتل الآلاف فى مقابر جماعية .. قال إنها فرية من الأمريكان ولم تعثر منظمة معنية بحقوق الإنسان على أى جثث.. كانوا يطلقون عليه فى السجن “VIC” أى:Very Important Criminal

&

وينفى عن نفسه تهمة اتصاله بالمخابرات الأمريكية قائلاً: الأمريكان عندما يريدون إسقاط زعيم أو أشخاص عاديين يحاولون استدراجهم للعمل مع مخابراتهم ثم يسقطونهم بعد أن يفضحوهم .. مؤكداً أنهم كانوا عازمين على غزو العراق للتخلص منى ومن أسلحة الدمار الشامل ولاعتقادهم بوجود علاقة بين العراق والقاعدة .. وعن إيران يقول : هى أخطر على العرب من إسرائيل .. هناك حلفً تاريخيً بين إيران واليهود .. حيث أعاد ملكهم «قورش» اليهود إلى فلسطين .. وعن بغداد أجاب الأمريكان : عدد سكانها سبعة ملايين .. بينهم ما لا يقل عن مليونى عراقى يحملون السلاح .. كنت ومازلت أومن بإن أمة دون سلاح هى أمة خنوعة، والطامة الكبرى فى حديثه جاءت عند ذكر أسباب غزو الكويت من وجهة نظره نتيجة لاستغلال الأخيرة الحرب العراقية الإيرانية وإغراق الأسواق بالنفط .. وتصاعد الأمر حين وصل إلى موضوع الشرف وهو خط أحمر فأثارتنا وآذتنا تلك الكلمات المهينة عن شرف المرأة العراقية وحرائر العراق .. إنه كتاب حافل بالدقائق والغرائب والعجائب .. «والوعظ الصدامى للأمريكان» .. وفى هذا الصدد يبرز اسم على الوردى عالم الاجتماع العراقى الشهير صاحب كتاب «وعاظ السلاطين» الذى حلل فيه شخصية الإنسان العراقى وأسباب توالى الطغاة على حكم العراق وقلة ظهور الزعماء الأقوياء فيه .. ومن وجهة نظره أن العرب عموماً مصابون بداء الازدواج لأنهم أخذوا من الصفات البدوية : الكبرياء والقبلية والتفاخر بالأنساب ومن القيم الإسلامية : الفتوى والخضوع والعدل والمساواة فأعمالهم بدوية وأقوالهم إسلامية.. والعراق على وجه الخصوص سيطرت عليه القيم البدوية أكثر من غيره وينطبق على شعبه قول الشاعر «قلوبنا معه .. وسيوفنا عليه» فوعاظ السلاطين عن طريق تقديمهم نموذج يستعصى على الاقتداء والمحاكاة بدلاً من تقديم نموذج بسيط يقترب من طبيعة البشر ويحفزهم على الارتقاء فى مدارج القيم بصورة أكثر استقراراً ودواما .. تسببوا فى نثر بذور النقد العنيف الشديد .. ونظراً لأن مقاييس الوعظ مرتفعة فكان يتم تطبيقها على الآخرين فقط ومن ثم كل زعيم يظهر يقابله الناس بالجدل والانتفاد.

أهوال صدام لا تنسى وصف بأنه من أخطر الأنظمة التى ظهرت منذ الحرب العالمية الثانية .. والعجيب أننا ننسى التاريخ القريب .. فداعش لم تظهر بين يوم وليلة ولكنها ترعرعت بعد غزو العراق مع التحفظ على مسماها الذى لا يعنينا .. فها هو أبو مصعب الزرقاوى ينفذ عملية اغتيال القائم بالأعمال المصرى فى بغداد السفير ايهاب شريف – رحمه الله – وتكتب جريدة الشرق الأوسط عام 2004 «من بين 33 موقعاً بثت الصورة الجديدة للعرب يتميز موقع الزرقاوى بأنه هو الذى يتولى ذبح الرهينة الأولى بيده وسط هتاف من حوله .. فيرد أحد القراء على كاتب المقال السابق الأستاذ سمير عطالله مدافعاً : «إنه توازن الرعب .. لأن المقاومة لا تستطيع إنزال الخسائر فى المعدات».

خصوصية العنف فى العراق جسدها «كنعان مكية» فى كتابه «جمهورية الخوف» الذى نكتشف من خلاله عالم أغرب من الخيال .. لكن مكية عاد عام 2010 ليقر بأن صدام العراق «كارثة» وبدونه كارثة أيضاً .. نحن بانتظار مشاهد جديدة بين داعش والتحالف الدولى وتصريح كيسنجر بأن داعش تهدف لإظهار عجز أمريكا أمام العالم .. إذن نحن أمام فيلم جديد تصنعه هوليوود .. يذكرنى بعبارة المخرج الإيطالى الكبير فديركو فيللينى : «لم تعد مشاهدة الأفلام تخرجنى من نفسى .. بعد فترة معينة أصبحت صناعة الأفلام أشد إثارة من مشاهدتها»!!
&