عبدالله النغيمشي

لعلي لست بحاجة إلى أن أقنع قارئي الشيعي أنني أكتب بصفتي ناقداً وباحثاً، لا رسالي ديني مذهبي، حتى وإن كنت سنياً، هكذا أتمنى من قارئي الشيعي، وهكذا رجواي من طبقات وعيي أن أكون مشارفاً للموضوعية والحياد. لست مهجوساً بمعرفة أو استقصاء تفاصيل المذهب الشيعي، لأن ذلك لا معنى له إلا عند المتخصصين في التيولوجيات العقائدية، إضافة إلى أن التغور في المذهبيات عسير على غير بني جلدتها، ذلك أن أي مذهب يتشكل من مدارس عدة، كما تباينت المرجعيات في تفسير المذهب وتوزيعه وتسويقه، ما بين الغالي والجافي والوسطي.

&

كتبت كثيراً في نقد تيولوجيتي، لمعرفتي بأركانها وزواياها، لأنني أعيشها وأتنفسها وأتماسها في كل تلافيفها من لحظاتي الباكرة، إذ إن علاقتي فيها علم وعبادة وهوية، لكن أن أدرج في قراءة تفاصيل تيولوجية غير تيولوجيتي، فإنني أكون قد ورطت نفسي في اجتراح مفازة مترامية الأطراف من دون خريطة تمنحني اكتناه تضاريس ومناخات تلك المفازة، أو كما قيل «أهل مكة أدرى بشعابها».

&

ما يهمني كقارئ سني للذهنية الشيعية الشعبية المؤطرة أو «المؤسطرة»، ولا أعني في ذلك أن الأسطرة متلازمة في الذهنية الشيعية الشعبية فحسب، بل هي متلازمة في كل المذهبيات أو الملليات العقائدية.

&

لن أتناول إلا ما كان إشكالاً في لا وعي المؤمنين التقليديين الشيعة، كما لن أتناول إلا ما كان تأزماً مذهبياً يتداخل مع المذهب السني، ويستعيد تسعير الكراهية والتنابذ.

&

تحديداً اجترار واستعادة السجال والخصام العتيق، الذي ينبني على ذهنية التعسكر والتخندق والاصطفاف، والذي يتمثل بمتلازمة «النواصب» عند الشيعة الكلاسيكيين، يستوي في ذلك المراجع والرموز الشيعية التعبوية والمتلقي الشيعي التقليدي.

&

في «تويتر» مثلاً، أجد الشيعي المحاكاتي التابع أو المتبوع لا ينفك ليثبت خطيئة السنة تاريخياً، إلا عبر التوشيم بعقيدة «النصب»، كما هو في الوقت ذاته لا يجد إمكاناً لتكريس المظلومية الحسينية وبكائياتها إلا عبر قذف السنة بعيار أو معيار «النصب»، لتحميل السنة أوزار مظلوميات عتيقة، لست هنا في مقام الدفاع عن المذهب السني، فتلك وظيفة العقائديين، وإنما أتجه لمخاطبة العقل الشيعي الشعبي أو العامي فحسب، أريد أن أحكي لهذا المخيال أن فكرة «النصب / النواصب» لا وجود لها إلا في أذهان من يريدون تبخيس العقل وتسييسه وترتيجه، ليظل عانياً للمستثمرين المتنفذين، على حساب العقل والحرية والحياة، ذلك أن الحياة لا معنى لها من دون حرية أو عقل.

&

ثمة سؤال عفوي، ما علاقة أهل السنة عبر التاريخ حتى اليوم بالفكر الناصبي؟ وهل هناك فكر وعقيدة ناصبية تاريخياً؟

&

لا جدال بوجود العقيدة الناصبية، التي ناوأت وناصبت علي وابنه الحسين رضي الله عنهما أحياء وأمواتاً، انتهت بفاجعة وجرح عميق في الوجدان الإسلامي بعامته، وكان ذلك بقتل الحسين رضي الله عنه، لكن هذا الجرح لم يكن حكراً على الضمير الشيعي، بل هو جرح في قلب عامة المسلمين بمذاهبهم حتى اليوم، وإن زعم الأصولي الشيعي باحتكار الألم شيعياً، الأمر المهم الذي يخفى أو يموّه على مخيال العقل الشيعي الشعبي، أن السنة عبر التاريخ نواصب يعادون أهل البيت.

&

كم أصاب بالدهشة أن ترسخ هذه الفكرة الاستعدائية راهناً في الضمير الشيعي رسوخ اللاهوتيات التي لا تحتمل الاستعادة، لن أحكي في هذه السردية لأنها لا تنتهي.

&

لأختصر عقيدة «النصب» أقول: إن هذه العقيدة انتهت مع نهاية الدولة الأموية، التي شرعنت مناصبة علي وبقيته - رضوان الله عليه وعليهم -، وأصبحت من أسمال التاريخ، وتهدمت بتهدم الأمويين إلى الأبد، وبرهان ذلك، أن أهل السنة من سقوط الدولة الأموية الناصبية حتى اليوم لم يسجل أن أحداً منهم نال من جناب آل البيت - رضوان الله عليهم - بسوء، وأحكي ذلك بقاطعية وليس برغبوية أخلاقية، المتصفح لكتب أهل السنة خصوصاً كتب الرجال نموذجاً «سير أعلام النبلاء للذهبي» و«الاستيعاب لابن عبدالبر» و«الإصابة في تمييز الصحابة» لابن حجر... وغيرها، سيجد أن هؤلاء العمالقة، من كتاب السير عند أهل السنة، حال تعرضهم وتسجيلهم لشخصيات تاريخية أموية ناصبية، من قادة وولاة، لا يترددون في نقدهم والتثريب عليهم في أنهم نواصب، ويأخذون عليهم خطيئتهم في مناصبة آل البيت العداء.

&

الذي أعنيه، أن النواصب كانوا حقيقة تاريخية، ولست بصدد نقدهم، وإنما بصدد التأكيد على الوعي الشيعي، أن أهل السنة عبر التاريخ كانوا يلومون النواصب ويقدحون فيهم مذمة التعدي والجور على آل البيت، وكما يأخذ عليهم الشيعة يأخذ عليهم أهل السنة، ما يعني براءة أهل السنة من عقيدة النصب، إلا في وعي المرجع الشيعي المحاكاتي، الذي سيفقد امتيازاته السياسية والاجتماعية، لو ترك وصم أهل السنة عبر التاريخ بالنصب.

&

الحصاد: يجمع أهل السنة عبر التاريخ على حب أهل البيت، ويتعبدون لله بحبهم، فمن لا يحب بعض الرسول صلى الله عليه وسلم.

&

أن يروّج أو يسوّق مرجع شيعي مغالٍ في تشيعه، أن عقيدة النصب رديف موضوعي للعقيدة السنية، فذلك جهل وتجهيل وعبث منهجي بالتاريخ، ولا يعني قولي أن تلك الفكرة عقيدة شيعية ورأي لعموم مراجع الشيعة، بل إن المراجع الشيعية المتوازنة تدرك ذلك وتتأباه وتناهضه، لكن الصوت الأعلى للغلاة المسيسين البراغماتيين.

&

حددت الحديث في إشكال عقيدة النصب، نظراً لأنها الأيقونة التأسيسية للكراهية الشيعية لأهل السنة خصوصاً، ونحن نشهد اليوم تصاعد وتيرة الكراهية المذهبية التي سعرتها الثورات، الثورة السورية تحديداً، كثير من الشيعة يربط ما بين أهل السنة عامة ودولة بني أمية في النصب، حتى توهم اللاوعي الشيعي أن أهل السنة استكمال لفكر بني أمية، أو أن بني أمية سلف أهل السنة. لم أحك عن غلاة السنة، لأنني حكيت عنهم كثيراً في «تويتر» وفي مقالاتي الصحافية، وخطابي للشيعي هنا خطاب عقلاني، لا مذهبي هكذا رجوت أو حاولت.

&

أخيراً: من المؤلم أن يحكمنا سكان الأضرحة ويسكنونا ونسكنهم وإنما الميت ميت الأحياء.

&


&