«رسالة مفتوحة للبغدادي» ترد على افتراءات التنظيم

&
في آخر انتقاد رفيع المستوى يتعرض له تنظيم «داعش» من قبل علماء وقادة سياسيين مسلمين، وجّه خلال الأسبوع الجاري نحو 120 من علماء الدين المسلمين رسالة مفتوحة إلى التنظيم يفندون فيها مزاعمه بأنها جزء من الحركات السياسية الدينية، وقد طرحت الرسالة- التي وقعت عليها وجوه إسلامية بارزة، مثل مفتي الديار المصرية الحالي والسابق، ومفتي البوسنة، فضلاً عن شخصيات من نيجيريا وباقي أنحاء العالم- 24 نقطة تعترض على تصرفات «داعش»، ما يجعلها خارج الإطار الإسلامي، لكن ورغم الانتقادات الواضحة لإسلامية «داعش» تركت الرسالة سؤالاً معلقاً حول كيف لتنظيم يصر على الإسلام كأيديولوجية، ألا يكون إسلامياً في نهاية المطاف؟ الحقيقة أن الإجابة عن السؤال معقدة، إلا أنه إجمالاً يمكن القول إن «داعش» تنظيم يعتمد على صورة سطحية للإسلام، ويوظفه بطريقة وصولية لتحقيق أهداف سياسية، كما أن أسلوب التنظيم يستلهم، على الأقل في جزء منه، الأيديولوجيات الثورية ذات الطابع العلماني التي ظهرت ونشأت في الغرب، هذا ناهيك عن اعتمادها على العديد من الأساليب الغربية في التنظيم واستخدام الثقافة الشعبية واستدعاء الرموز الاجتماعية والحضارية.

وحسب علماء الدين الموقعين على «رسالة مفتوحة للبغدادي»، والذين ينحدرون من الشرق الأوسط وجنوب آسيا وأوروبا وأفريقيا وأميركا الشمالية، لا يمت تنظيم «داعش»، رغم تأكيده على طابعه الإسلامي، بأي صلة للإسلام، فالممارسات التي يلجأ إليها التنظيم مثل معاملته للمرأة والأقليات الدينية، وغير المقاتلين، فضلاً عن استخدامه المجاني للعنف والاعتداء، لا تتفق مع المبادئ الإسلامية التقليدية، ولا مع الممارسة الصحيحة للدين، وفي معرض مقاربتهم النقدية لسلوكيات التنظيم وعقيدته، نوه الموقعون على الرسالة إلى أن «كل ما جاء في خطابهم يعكس آراء السواد الأعظم من الفقهاء السُنة على مدى التاريخ الإسلامي».

ومع أنها ليست المرة الأولى التي تنتقد فيها شخصيات إسلامية مرموقة «داعش» وتدحض مزاعمها، إلا أنه بالنسبة للمتابع الغربي البسيط تُثار العديد من الأسئلة حول ماهية «داعش» إذا لم تكن بالفعل منغمسة في خطاب ديني وتسعى بكل قوتها لإقامة خلافة إسلامية، انسجاماً مع ما يؤكده التنظيم نفسه، وهنا لا بد من التوضيح، إجابة عن السؤال، أن «داعش» هي على الأقل إسلامية في الظاهر.

فالإسلام في نتاجه الفقهي ليس واحداً، بل هو كخطاب تراكم على مر التاريخ، عرف اجتهادات عديدة، ما يعني أن السياق يلعب دوراً أساسياً في تفسير خطاب «داعش» الذي يعرف الجميع أن بذوره الأولى كأيديولوجية نشأت في سياق الاحتلال الأميركي للعراق من جهة، ثم قسوة النظام السوري وبطشه من جهة أخرى، لذا ليس غريباً أن ينعكس ذلك على نظرته الدينية للعالم وتفسيراته الفقهية التي تتسم بالتعصب والتشدد. لكن وفيما لا يمكن التشكيك في مدى إيمان التنظيم بعقيدته المتشددة وإخلاصه لها، إلا أنه وعلى غرار أنواع أخرى من التطرف سعت «داعش» إلى توظيف نفعي للدين من خلال استغلال ثقافة المجتمع ورموزه لإضفاء الشرعية على تصرفاته، وهذا يعني في المجتمعات المسلمة توظيف الخطاب الديني والرموز التاريخية للتأثير في الجمهور مثل استخدام راية النبي محمد، والحديث عن إحياء الخلافة الإسلامية.

بيد أن اللافت في استراتيجية «داعش»، أنها لا تكتفي بالاعتماد على الإسلام لحشد التأييد المحلي واستدعاء المفاهيم الإسلامية، بل تسعى أيضاً إلى استغلال بعض ملامح الحضارة الغربية وثقافتها الشعبية لاستقطاب الأتباع يدل على ذلك الاستخدام المكثف لتقنيات التواصل سواء مقاطع الفيديو المعدة إعداداً جيداً، أو مواقع التواصل الاجتماعي، للترويج لأفكارها، يضاف إلى ذلك أن أساس الفكرة التي تجسدها «داعش»، كونها حركة ثورية متطرفة تستخدم العنف لإنشاء مجتمع طوباوي، تستلهم مباشرة الحركات الراديكالية التي ازدهرت في أوروبا خلال القرن العشرين مثل الحركات الماركسية اللينينية، ولا ننسى أن رموز «الإسلام السياسي» ومؤسسيه الأوائل مثل سيد قطب وأبي العلاء المودودي تأثروا بالأيديولوجيات الغربية المعاصرة.

والنتيجة أن تصرفات الحركات الراديكالية، مثل «داعش» لها من المشتركات مع «الحرس الأحمر» لماوتسي تونج و«الخمير الحمر» أكثر مما لديها مع الإمبراطوريات الإسلامية التي يدعون أنهم ورثتها الشرعيون، والمفارقة أن «داعش» بدمجها لملامح من الحضارتين الغربية والإسلامية استطاعت بلورة أيديولوجية راديكالية تتميز بقدر كبير من الحداثة، رغم تمجيدها للماضي، ويمثل الاعتراف بهذا المعطى الخطوة الأولى لنقض فكرة صدام الحضارات التي يتغذى عليها المتطرفون، والأكثر من ذلك ليست «داعش» إسلامية سوى بقدر ما لدى كوريا الشمالية من «ديمقراطية» بالفعل، لذا تأتي الرسالة الأخيرة كمثال ساطع على مدى رفض عموم المسلمين لتنظيم «داعش» ومشروعه الراديكالي، ومن وجهة نظر غربية من المهم عدم السقوط في فخ «داعش» بالاعتراف له بالشرعية الدينية والسياسية غير المتوفرة له أصلاً.

وفي النهاية ليس الإسلام سوى ما يقوله عنه أتباعه، فإذا أكد غالبية المسلمين أن «داعش» بعيد كل البعد عن الإسلام فسيكون من الخطأ الإصرار على أنه إسلامي، وحتى يحارب التنظيم على نحو فعال فإنه من الضروري تسليط الضوء على أصوات غالبية المسلمين التي لا تكف عن انتقاده، وذلك بدلاً من الإصغاء إلى الأصوات الأخرى التي ترى في «داعش»، تجسيداً لصراع مستمر بين الغرب والإسلام.

مرتضى حسن

صحفي ومحلل سياسي بمؤسسة

«فيرست لووك»
&

&
&