محمد كريشان

لا أحد انتقد خطاب الرئيس محمود عباس في الجمعية العامة للأمم المتحدة سوى الولايات المتحدة وإسرائيل، ولا أحد يدري ما الذي كانا يتوقعانه بالضبط من مسؤول أول عن شعب ناله ما ناله في الحرب الأخيرة ؟!! ضربوه وحرّموا عليه البكاء… يقول المثل!! وقبل ذلك وبعده، لم يستطع الرجل الظفر بأي مكسب من وراء السنوات الطوال من مفاوضات لا نهاية لها فوجد نفسه يعترف أمام العالم أجمع أنها فشلت. كان خطابه مفعما بالمرارة، وحتى هذه استكثروها عليه!!.


لا يجدر التوقف عند ما قاله ويقوله الإسرائيليون عن الخطاب، ولكن بالنسبة إلى الموقف الأمريكي سيكون من المهم مثلا معرفة ماهو «الاستفزازي» بالضبط في هذا الخطاب، وما هي تلك التوصيفات «المهينة» و»المخيبة للآمال» التي تضمنها عدا الانتقاد الواضح والصريح للسياسات الإسرائيلية. طبعا، لم تكن واشنطن يوما بعيدة عن مثل هذا التماهي التقليدي مع إسرائيل ومواقفها من الفلسطينيين، لكنها ربما لم تكن يوما بمثل هذا التطابق المستفز الذي لم يعد يقبل حتى بحق الرئيس الفلسطيني في الشكوى والتذمر!! تفعل واشنطن هذا مع من ما زالت تراه، إلى حد الآن على الأقل، شريكا للسلام ومع من يتعرض لأشد الانتقادات بين أبناء شعبه بسبب مراهنته على التسوية ورفضه لكل أشكال العنف في الصراع مع الإحتلال الإسرائيلي.


رد واشنطن المتشنج على خطاب عباس يقود إلى استنتاجين رئيسيين :
ـ الأول : أن واشنطن تبدو غير قادرة حتى على احترام شريكها منذ سنوات في البحث عن تسوية سلمية مما يجعله عرضة لـــ «شماتة» معارضيه. للمفارقة، وصلنا إلى هذا اليوم الذي يتبرم فيه الأمريكيون ممن يـُـجمع كثيرون على أنه فرصتهم الأخيرة في تحقيق تسوية بعد أن أضاعوا قبل عشر سنوات فرصة الراحل ياسر عرفات.


- الثاني: أن واشنطن بذلك توجه رسالة خطيرة مفادها أن الاعتدال لا قيمة له حتى في عرف من يقدم نفسه راعيا له ومشجعا. هذا لا يمكن أن يقود في نهاية المطاف سوى إلى التطرف والإرهاب الذي تقول إنها تحاربه وهو ما أشارت إليه الخارجية الفلسطينية حين قالت في بيانها المعقب على المتحدثة باسم الخارجية الأمريكية إن هذه التصريحات المدافعة عن الممارسات الإسرائيلية بلا تحفظ «هي التي تولد تلك الأجواء المعادية لأمريكا في المنطقة وفي العالم».


الواضح اليوم بعد بيان الخارجية الامريكية المنتقد لخطاب عباس أن واشنطن، إن لم تكن تسيء معاملة أصدقائها، فهي على الأقل لا تعرف كيف تحترمهم أو تحتفظ بهم. هي لا تجعل من علاقتها مع هؤلاء علاقة مثمرة لأنها بالأساس تعتبر ان لا صديق لها في الدنيا والآخرة سوى إسرائيل وعلى البقية القبول بالأدوار الثانوية الهزيلة. من هنا يـُـفهم تماما ما نــُـسب لعباس من قول في اجتماع أخير مع أمير دولة قطر في الدوحة من أنها «وصلت الأمور مع الأمريكيين إلى هنا» مشيرا إلى أنفه!!. وبعد فشل عرفات في علاقته المتقلبة مع الأمريكيين والفشل النهائي الوشيك لعباس من الصعب أن تجد واشنطن شخصية فلسطينية مستعدة للتعامل معها ناهيك عن الوثوق بها، اللهم إذا كانت تبحث عن عميل ليس إلا. للأسف، واشنطن لم تثبت فقط أنها ليست وسيطا نزيها ، وهو المعروف من المفاوضات بالضرورة، لكنها تبدو غير معنية بالبحث عن شركاء أصلا، ربما لأنها ليست حريصة على أي اتفاق من الأساس، إلا إذا كان اتفاقا تصيغه إسرائيل بالكامل وهذا له مسمى واحد: الإستسلام.


الدراما الماثلة اليوم أن الولايات المتحدة لا تكتفي بالتعامل مع أعدائها بمحاربتهم وشيطنتهم في كل مكان، وهذا مفهوم، وإنما تتعامل كذلك مع أصدقائها المفترضين بعنجهية مسيئة لها ولهم على حد سواء. إذا كانت واشنطن لا تريد التوصل إلى أي شيء في الملف الفلسطيني فقد نجحت، وإن كانت تريد فأي معنى لإطلاق النار على أصدقائها أو حتى على رجليها أحيانا. إن الانتهاء الوشيك لعلاقة عباس مع الأمريكيين ستكون إيذانا بنهاية علاقة الفلسطينيين ككل معهم لأنه لن يكون بعد عرفات وعباس من سيكون مستعدا لتقديم نفسه قربانا لعلاقة لا تريد أن تثمر ويريدها الأمريكيون أن تتواصل فقط إنقاذا للمظاهر وإمعانا في التسويف. عرفات وعباس أبديا من المرونة ما جلب لهما ما جلب، تم التخلص من الأول وشرعوا تقريبا في شيطنة الثاني تمهيدا لإزاحته خاصة إن هو قررخطوات أخرى من قبيل الإنضمام إلى محكمة الجنايات الدولية. الفلسطينيون تعودوا على كل المصائب ولن يكون ما سيحل بهم أسوأ مما قاسوه إلى حد الآن، أما الأمريكيون فمتاعبهم جراء مثل هذه السياسات قد تتفاقم … وهم من لا تنقصهم المتاعب أصلا مع ما يجري اليوم في المنطقة.