عندما يصبح عاليها سافلها


&محمد أبو كريشة

&

تأملت طويلاً قول الله تعالى على لسان سيدنا إبراهيم عليه السلام: (... فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، «سورة إبراهيم: الآية 36». سماحة الإسلام كلها في هذه الآية الكريمة. لأن السياق في غير القرآن الكريم وفي كلام البشر هو: (ومن عصاني فإنك شديد العقاب .. ومن عصاني فأدخله النار. جواب الشرط في فعل العصيان هو العقاب والعذاب. هذا هو السياق البشري، لكن الجواب في القرآن الكريم وعلى لسان خليل الله إبراهيم يفاجئنا بأنه دعاء بالمغفرة والرحمة لمن عصى (وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، «سورة إبراهيم: الآية 36».

الرحمة والمغفرة عنوان رئيسي ضخم وكبير في الإسلام - والله سبحانه وتعالى كتب على نفسه الرحمة وحرم الظلم على نفسه. وما كتبه الله تعالى على نفسه كتبه على عباده وما حرمه الله على نفسه حرمه على عباده.

ليس أرق ولا أعظم من الإسلام - ولا ينبغي أن يكون هناك أرق أو أرحم من المسلم - وليس مسلماً أبداً من فقد الرحمة - ومن لا يرحم لا يُرحم - وهؤلاء الذين يرهبون الناس ويذبحونهم علناً باسم الدين ليسوا مسلمين ولو صلوا وصاموا وحجوا وزكوا - ونزع الرحمة من القلوب غضب من الله تعالى نعوذ بالله منه .. وشيوع القسوة والغلظة والفظاظة من علامات سخط الله.

والله تعالى قال لرسوله صلى الله عليه وسلم: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)، «سورة آل عمران: الآية 159». أي أن اجتماع الناس حول الرسول صلى الله عليه وسلم كان أولاً برحمته ورقته قبل أي شيء آخر. فكيف يمكن أن يجتمع أسوياء نفسياً وصادقون دينياً حول هؤلاء الغلاظ القساة القلوب العابسين العابثين، أمثال زعماء المنظمات والجماعات الإرهابية؟

وإذا كانت امرأة قد دخلت النار في هِرة حبستها ولم تطعمها ولم تسقها ولم تتركها تأكل من خشاش الأرض .. دخلت النار في هِرة. ولاحظ أنها لم تذبحها ولم تقطع رأسها ولم تضربها حتى الموت - ولاحظ أيضاً أن الحديث الشريف لم يقل إن الهرة ماتت من فعل المرأة. لم نعرف إن كانت ماتت أم لم تمت كل ما عرفناه أن المرأة دخلت النار لأنها حبست الهرة وحبست عنها الطعام والشراب ولم تتركها تأكل من خشاش الأرض. المرأة دخلت النار بالفظاظة والغلظة والقسوة وانعدام الرحمة، وليس لأنها قاتلة، والفظاظة كانت مع الحيوان وليس مع الإنسان - هل هناك أعظم أو أرق أو أرحم من هذا الدين؟

هل بعد ذلك كله يمكن أن يكون أهل داعش، أو النصرة، أو أنصار الشريعة، أو فجر ليبيا، أو الإخوان، أو الحوثيين، أو حزب الله، مسلمين؟ هل أهل القاعدة مسلمون؟ لا يمكن أن يكون هؤلاء المنفرون المقرفون من أتباع هذا الدين العظيم .. دين الرحمة واللين والتي هي أحسن. الدين الذي يقول أتباعه لمن يجهل عليهم: (سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين) .. حتى إذا رفضوا الجاهلين يقولون لهم في البداية: (سلام عليكم). والحب من الرحمة .. والحب في الإسلام أوسع كثيراً جداً من مفهومنا له. فالحب عندنا محصور في علاقة الرجل والمرأة حتى أنه أصبح في أذهاننا مرادفاً للجنس.

أما في الإسلام فإن الحب هو المودة والرحمة (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)، «سورة الروم: الآية 21» .. وما أقل الذين يتفكرون في أمتنا .. ومعظم آيات القرآن الكريم موجهة إلى الذين يتفكرون ويتدبرون ويوقنون (الحب في الإسلام مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالإيمان. (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ)، «سورة آل عمران: الآية 92»، - والرسول صلى الله عليه وسلم قالها بوضوح وصراحة وحسم: «لن تؤمنوا حتى تحابوا» - وقال: لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه .. ولا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما. هذا هو مقياس الإيمان .. المحب مؤمن والكاره ليس مؤمناً.

وكل التنظيمات المتطرفة والإرهابية والمذهبية وما يطلق عليها جماعات الإسلام السياسي، قامت على مبدأ الكراهية والفظاظة والغلظة، تشعر وأنت تطالعهم بأن وجوههم عليها غبرة ترهقها قترة .. وأنك لست في حاجة إلى أن يقدموا أنفسهم لك لأنك تعرفهم بسيماهم. الكراهية تنضح من قلوبهم على وجوههم. ولا يمكن أن يكون هؤلاء أتباع دين الرحمة والحب والمودة واللين .. فمن ليس مع هؤلاء فهو ضدهم بل إن من ليس معهم فهو كافر. هؤلاء هم الأخسرون أعمالاً (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا)، «سورة الكهف: الآية 104». وهؤلاء إذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم. وقد تسأل نفسك: لماذا تبدو وجوه وملامح هؤلاء مغبرة. والجواب في القرآن الكريم الذي أكد في غير آية وغير موضع أن هذه الغبرة والقترة تظهر على وجوه الذين كذبوا على الله، وجوههم مسودة. والوجوه المسودة غير الوجوه السوداء. الوجوه السوداء أو السمراء تبدو مشرقة إذا كانت قلوب أصحابها مليئة بالرحمة والحب. أما الوجوه المسودة فهي المظلمة المغبرة، وذلك عقاب وليست خلقة. بشرة الواحد منهم بيضاء لكنها تبدو مسودة ومظلمة. وأسوأ الكذب هو الكذب على الله. أن يفعل هؤلاء المنكر والفواحش ويرتكبون الجرائم النكراء باسم الله عز وجل. يقتلون الناس ويقول القاتل: ما فعلت ذلك عن أمري ولكنه أمر الله وشرع الله. يلبسون ثياب سيدنا الخضر عليه السلام، فيخرقون السفينة ويقتلون الغلام ويقولون إن هذا أمر الله وشرع الله. وعندما يرفعون شعار الدين وأمر الله وشرعه يتبعهم الغاوون والضالون وما أكثرهم في هذه الأمة. ما أكثر الذين يتبعون القتلة ويحبون أن يشيع المنكر وتشيع الفاحشة في المؤمنين. هؤلاء الدهماء والعامة والسوقة الذين ذمهم سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عندما رأى جمعاً كبيراً من البشر اجتمعوا حول شخص أُخذ في ريبة - ربما سرق أو زنى (لا أعرف). فلما رأى الفاروق احتشاد الناس في هذا الوضع قال: «لا مرحباً بتلك الوجوه التي لا تُرى إلا في شر» - إذا كانت فضيحة وفاجعة وحادث ونميمة وغيبة احتشدوا وتدافعوا ليتفرجوا، وإذا كانت مصالحة أو دعوة حب ورحمة تفرقوا - وكان عبدالله بن العباس رضي الله عنه يقول عن السوقة والدهماء وهوام البشر الذين تكتوي الأمة بنارهم في كل حين: «إن اجتماع السوقة والدهماء شر وتفرقهم خير. فقيل له: علمنا الشر في اجتماعهم. فما الخير في تفرقهم؟ قال رضي الله عنه: يذهب الكواء إلى عمله وصاحب الحانوت إلى حانوته فيكون العمل والرزق والرواج والخير». وعندما يختلط الحابل بالنابل ويصبح عالي الأمة سافلها وسافلها عاليها، يتصدر المشهد الرويبضة والذين يفتون بلا علم ولا هدى ولا كتاب منير، وتكون الغلبة خصوصاً في أمور الدين للذين كذبوا على الله وذوي الوجوه المسودة. فلا مرحباً بتلك الوجوه التي لا نراها إلا في شر ولا نرسو معها على بر!
&