رشيد الخيّون

إذا لم توجد منطقة حياد بين المذاهب في الثقافة فلا أظن أن لها وجوداً في المجالات الأُخر؛ ليس هناك رواية شيعية أو سُنية، بل لا شعر ولا علم ولا فن مسيحياً أو مسلماً، وما يُعبر عنه بالحضارة الإسلامية وهي تسمية عامة لمكان وزمان، شارك فيها المثقفون الأوائل من مختلف الديانات والمذاهب. فأفضل من حقق التُّراث الإسلامي ببغداد والموصل هما المحققان الشقيقان: كوركيس عواد (ت 1992) وميخائيل عواد (ت 1995)، ولا ندري ما فعلته «داعش» بإرثهما، وأحد أفضل مَن أحيا علم اللغة الأب أنستاس الكرملي (ت 1945)، وما بين الأخير ومحمود شكري الألوسي (ت 1924) تكامل في الجهود، وثالثهما مصطفى جواد (ت 1969). المعنى أن هؤلاء النُّخبة لو هبطوا إلى درك الخلافات المذهبية والدينية ما قدموا شيئاً، ولتحجم دورهم وحُنطت ذكراهم بحدود مذاهبهم أو أديانهم.

مِن هذا المنطلق نبحث عن منطقة حياد، أو لنسمها منطقة ثقافة حرة، وأكفأ مَن يؤسس لهذه المنطقة هم المثقفون، من كُتاب وباحثين وفنانين وغيرهم. ومِن حق مثقفي أبناء الطائفة أو المذهب أن ينشدوا من مثقفي أبناء الطائفة أو المذهب الآخر موقفاً ضد التعصب داخل طائفتهم، فمن المؤكد ألا يخلوا المذهبان من المتعصبين، بل لنقولها من السلفيين العقائديين أو المصلحين، ذلك إذا علمنا أن السلفية تعني التعصب للماضي ولكل مذهب سلفيته.


قرأتُ في صحف عراقية أن كُتابها يلومون من يقف بمنطقة الحياد، وأضغط على إرادتي بما هو ضدها، وأقول إن كُتاباً شيعةً قدموا اللوم لمن كتب ضد الحس الطائفي طالباً التخفيف من الاحتقان، مع أن ما كُتب قصد الأحزاب الدينية لا الطائفة، حتى كتب أحدهم: «هل هناك مثقف سُني انتقد طائفيي طائفته»؟ بالمقابل وجدتُ مثل هذا الأمر لدى الآخرين وأُشير إليهم بأنهم من الطائفة السنية، مع أن تسمية أولئك وهؤلاء بشيعة أو سنة ذكرتها خلافاً لرغبتي، لأنني أرى بها تعطيلا للثقافة وانتقاصاً لإبداعهم، وهو الرحب الخلاق والإنساني. غير أن واقعاً قد نشأ حتى ابتذل عنوان الثقافة، فماذا أفرزت فترة الجهاد بأفغانستان غير ثقافة «تزيين الشهادة»؟ وماذا أفرزت الثورة الإيرانية غير منطق العقيدة الصارمة، ومن تمرد إما يصمت وإما يهاجر بلا عودة!

لا أظن أحداً فكر بمذهب أبي فرج الأصفهاني (ت 356هـ)، صاحب «الأغاني الكبير»، ولا بمذهب أبي الطيب (قُتل 354هـ)، ولا بمذهب الجاحظ (ت 255هـ)، ولا بمذهب التوحيدي (ت 414هـ) والأمثلة كثيرة من الماضي والحاضر، إنما انشغلت الأجيال بنتاجهم لا بمذاهبهم، وهم أنفسهم لم يضيقوا على أنفسهم ويصطبغوا بالصبغة المذهبية أو الطائفية الحادة، فعندما اشترك محمد مهدي المخزومي (ت 1993) وإبراهيم السامرائي (ت 2001) في تحقيق أول المعاجم «كتاب العين»، لم يستشيرا مرجعيهما المذهبيين، ولم يسألا عن مذهب صاحب المعجم الخليل بن أحمد (ت 170هـ) نفسه.

ربما اتهمني البعض بتعريف المعرفات، أو باستغفال القارئ وغيرها من التصورات. نعم، ما أكتبه وأُحذر منه صار واقعاً معاشاً، أي تشييد الثقافة على أساس الطائفة وهبوطها إلى هذا الدرك من المستويات، مثلما هي السياسة الآن بالمنطقة. أقول: سيُرجم محمد مهدي الجواهري (ت 1997) الشيعي بالحجر لو عاد الآن ورثى السني معروف الرصافي (ت 1945)، وقد قال فيه ما لم يُقال بهذا السبك على ألسنة المتقدمين ولا المتأخرين: «لغزُ الحياة وحَيرة الألبابِ/ أن يستحيل الفكرُ محض تُرابِ/ أن يصبح القلبُ الذكي مفازةً/ جرداء حتى مِن خُفوقِ سرابِ/ فيمَ التحايل بالخلود، ومُلهمٌ/ لحفيرةٍ ومُفكرٌ لتبابِ؟» (في ذكراه 1959).

وبالمقابل سيرجم الطائفيون الرصافي لقوله راثياً الشيعي عبد المحسن الكاظمي (ت 1935) قائلا: «ليس في غاية الحياة البقاءُ/ فلذا خاب في الخلود الرجاءُ/ قد قضى الكاظمي وهو جديرٌ/أن تعزى في موته الشعراء» (الأعمال الشعرية الكاملة). أو رثاؤه الشيعي عالم الحلة أبي المعز محمد القزويني (ت 1916)، صاحب كتاب «طروس الإنشاء وسطور الإملاء»: «قف بالديار الدارسات وحيِّها/واقرإ السلام على جآذر حيها/ وانشد هنالك للمتيَّم مُهجة/ فُنيت من الأهواء في عُذريها» (المصدر نفسه). أو ما رثى به عالم الكاظمية الشيخ محمد مهدي الخالصي (ت 1925) وغيره مِن أعلام الشيعة. بل لا أحد يسمع بيته في الضريحين العلوي النجفي والقادري البغدادي: «قد شَرف الجيليَّ حفرته/ كما ضريح علي شرَّف النَّجفَ» (قصيدة هلم نبكِ). أو قوله في ابن النجف: «أقول لرب الشعر مهدي الجواهري/إلى كم تناغي بالقوافي السواحرِ».

هناك من يبغض الرصافي لأنه ذكر عوائد العوام من الشيعة بالنقد اللاذع؛ دون أن يلتفت إلى ما قال بما هو أكثر في الصوفية السنية، وما قال ناقداً «إخوان نجد» مبكراً: «فما حالة الإخوان فيها فإننا/ نرى الناس عنهم يذكرون الغرائبا» (الرصافي يروي سيرة حياته). وكم للرصافي مِن هجاء لفقهاء من أهل السنة، وكم لهم فيه من آراء إلى حد التكفير.

إذا توطنت الطائفية في الثقافة، فحالها سيكون حال من قال فيهم الجواهري: «وزمرة الأدب الكابي بزمرته/ تفرقت في ضلالات الهوى عُصبا» (قف بالمعرة 1944). لم يبق معنى للكتابة والأدب والشعر والفن، وها نحن نسمع الشعر بما لا يُحتمل من الشحن الطائفي، وبكل مروق على الثقافة يُعد نتاجاً ثقافياً! لقد تحول الغناء والطرب الجميل إلى حداء طائفي يُحرض على الثأر، فهل يريد المثقف أن يقف مأسوراً لهذا الحطام؟

أصف المثقف الطائفي، الذي نسى نفسه وسخرَ فنه لعراك بين قاتلين مأزومين لعقيدة أو مصلحة؛ بما قرأته عند التنوخي (ت 384هـ): «حدثني جماعة من شيوخ بغداد: إنه كان بها في طرفي الجسر سائلان أعميان، يتوسل أحدهما بأمير المؤمنين علي عليه السلام، والآخر بمعاوية، ويتعصب لهما الناس، وتجيئهما القطع دارّةً، فإذا انصرفا جميعاً اقتسما القطع، وأنهما كانا شريكين يحتالان بذلك على الناس» (نشوار المحاضرة).

هل يريد المثقف أن يلعب دور المستغفل، من قبل أعميين حاذقين، بما ورثه من أبيه وأمه من مذهب؟ أرى من الضرورة أن يبحث المثقفون الأصلاء عن منطقة حياد غير خادعة، فالافتتان بالكتابة والفن غير الافتتان بالطائفية. إنه الفرق بين العمران والخراب.
&